يمثل القرار ٢٨٠٣ الصادر عن مجلس الأمن لحظة مفصلية فى مسار الصراع الفلسطينى - الإسرائيلى وفى مسار المأساة الإنسانية التى تعصف بقطاع غزة منذ أشهر طويلة. فبعد فترة ممتدة من الانسداد السياسى، وانهيار معظم آليات التهدئة الدولية والإقليمية، والغياب شبه التام لأى إطار تفاوضى يمكن البناء عليه، جاء القرار ليعيد طرح السؤال الجوهرى: هل يمكن تحويل هذه الوثيقة الأممية إلى نقطة انطلاق حقيقية نحو إنهاء المأساة الراهنة، وفتح أفق سياسى قابل للحياة للقضية الفلسطينية أم أنه سينضم إلى سلسلة طويلة من القرارات التى بقيت حبيسة النصوص دون أن تجد طريقها إلى التنفيذ؟
الجواب لا يعتمد على نص القرار ذاته فقط، بل على السياق السياسى المصاحب له، وعلى موازين القوى الإقليمية والدولية، وعلى قدرة الأطراف العربية، وفى مقدمتها مصر، على إعادة صياغة معادلة دبلوماسية فاعلة لا تتجاهل التعقيدات الميدانية، ولا تسلّم بإكراهات الواقع المفروض بالقوة، وفى الوقت نفسه لا تنغلق على فكرة الممكن القريب وتترك الهدف الأساسى -وهو إنهاء الاحتلال وتمكين الشعب الفلسطينى من حقوقه - يتلاشى فى التفاصيل.
أول ما يلفت النظر فى القرار ٢٨٠٣ أنه يمثل لأول مرة منذ ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ محاولة جدية من مجلس الأمن لفرض مسار يوازن بين اعتبارات الأمن وبين المتطلبات الإنسانية والسياسية للصراع. فهو يطرح وقفًا لإطلاق النار على مراحل، يربط بين الهدنة الميدانية وبين إطلاق الأسرى وتدفق المساعدات الإنسانية، ويعيد التأكيد على ضرورة منع التهجير القسرى، ويحذر من أى تغييرات ديموغرافية أو جغرافية فى القطاع، وينص بوضوح على ضرورة استئناف مسار سياسى يؤدى إلى حل الدولتين. إلا أن تحويل هذه العناصر إلى واقع يتطلب توافر شروط أربعة أساسية: إرادة دولية ضاغطة، آليات عربية فاعلة، وحدة فلسطينية قابلة للبناء، وبيئة ميدانية تسمح بالانتقال من الهدنة إلى المسار السياسى.
• • •
على المستوى الدولى، لا يبدو أن البيئة مهيأة لفرض تنفيذ فورى. فالنقاش داخل مجلس الأمن نفسه عكس انقسامًا حادًا بين القوى الكبرى. الولايات المتحدة وإن سمحت بمرور القرار، إلا أن موقفها ما زال متأرجحًا بين رغبتها فى تجنب الانفجار الإقليمى وبين حسابات دعمها لإسرائيل فى حرب تعتبرها واشنطن جزءًا من منظومة الردع. روسيا والصين من جهتهما استثمرتا فى الدفع نحو قرار أكثر صرامة، لكنهما ليستا فى موقع يمكنهما من فرض التزام إسرائيلى. أوروبا، رغم ارتفاع مستوى الانتقادات داخل عواصمها، ما زالت منقسمة وغير قادرة على تقديم طرح موحّد. هذه المحددات تجعل أى تقدم فعلى رهينًا بقدرة الأطراف الإقليمية، خصوصًا العربية، على بناء مسار موازٍ يدعم القرار ويدفع الأطراف الدولية للالتزام به تدريجيًا.
هنا يبرز الدور المركزى لمصر، بما تملكه من خبرة تفاوضية طويلة، وعلاقات مباشرة مع كل الأطراف المتورطة فى النزاع، وقدرة على إدارة مسارات معقدة تتداخل فيها الأبعاد العسكرية والإنسانية والسياسية. فمنذ بداية الأزمة، لعبت القاهرة دورًا محوريًا فى محاولات الوصول إلى وقف إطلاق النار، وفى تنظيم مرور المساعدات، وفى إدارة الاتصالات بين الفصائل الفلسطينية والوساطة مع حكومة الاحتلال. ومع صدور القرار ٢٨٠٣، تبدو اللحظة مواتية لتفعيل هذا الدور وإعادة صياغته ضمن إطار دبلوماسى أوسع، يتجاوز إدارة الأزمة نحو بناء مسار سياسى مستدام.
أول مساهمة مصرية ممكنة تتمثل فى تحويل المرحلة الإنسانية من القرار إلى واقع ملزم. فمصر تمتلك القدرة على تشكيل آلية عربية–دولية لضمان دخول المساعدات عبر معبر رفح أو أى معبر آخر يتم الاتفاق عليه، مع توفير ضمانات لعدم استغلال الجانب الإسرائيلى للمعابر كورقة ضغط سياسية أو عسكرية. وإلى جانب الجهد الإنسانى، يمكن للقاهرة أن تعمل على وضع ترتيبات أمنية تتوافق عليها الأطراف الإقليمية وتمنع سيناريو الفوضى أو تمكين الاحتلال من إدارة القطاع بشكل مباشر أو غير مباشر. مثل هذه الترتيبات يمكن أن تشكل قاعدة للانتقال إلى المرحلة الثانية من القرار، وهى الهدنة طويلة الأمد.
أما المساهمة الثانية فتتعلق بالشق السياسى. إذ تحتاج المرحلة المقبلة إلى طرح عربى موحد، لا يكتفى بالدعوة إلى حل الدولتين، بل يعيد تعريف هذا الحل وفق معايير واقعية وملزمة، ويقدّم ضمانات سياسية وأمنية لجميع الأطراف، بما فيها المجتمع الدولى. ومصر قادرة هنا على قيادة جهود تنسيق معمق بين الدول العربية الأكثر انخراطًا فى الملف الفلسطينى - مثل الأردن والسعودية وقطر- لصياغة رؤية مشتركة تُطرح على الأطراف الدولية باعتبارها الطريق الوحيد لضمان استقرار طويل المدى. هذه الرؤية يجب أن تقوم على ثلاثة مرتكزات: ربط الهدنة بمسار سياسى واضح، ضمان عدم إعادة احتلال غزة تحت أى صيغة، وتوحيد الضفة وغزة تحت سلطة فلسطينية واحدة قابلة للحياة.
وفى هذا السياق، يصبح ملف المصالحة الفلسطينية عنصرًا لا غنى عنه. فالقرار ٢٨٠٣ يفتح الباب لمرحلة سياسية جديدة، لكنه يبقى عاجزًا عن توفير بنية فلسطينية قادرة على إدارة هذه المرحلة. مصر، التى رعت مرارًا محاولات المصالحة بين الفصائل، يمكنها أن تعيد تفعيل هذا المسار عبر طرح صيغة انتقالية تُعيد بناء السلطة الفلسطينية على أسس أكثر تمثيلًا وشفافية، وتدمج مختلف القوى الفلسطينية فى إطار مؤسسى لا يلغى التعدد لكنه يمنح القرار السياسى الفلسطينى وحدة وشرعية. نجاح هذا المسار سيمنع تكرار فراغ الحكم فى غزة، ويغلق الباب أمام السيناريوهات التى تسعى بعض الأطراف لفرضها، سواء بعودة الاحتلال المباشرة أو بفرض إدارة محلية ضعيفة أو مفصّلة وفق اعتبارات أمنية إسرائيلية.
يبقى التحدى الأكبر هو كيفية إلزام إسرائيل بتطبيق بنود القرار، خصوصًا فى ظل حكومة يمينية متطرفة ترفض وقفًا طويلًا لإطلاق النار، وتعارض العودة إلى أى مسار سياسى. هنا يمكن للدبلوماسية المصرية، بدعم عربى ودولى، أن تُعيد صياغة معادلة الضغط عبر عدة أدوات: أولها تفعيل دور الرباعية الدولية، وثانيها تشجيع المواقف الأوروبية الأكثر انفتاحًا على حلول سياسية حقيقية، وثالثها الدفع نحو ربط المساعدات العسكرية والاقتصادية لإسرائيل بمدى التزامها بالقانون الدولى. وفى الوقت نفسه، يمكن لمصر أن تستثمر علاقاتها الأمنية مع تل أبيب لفتح قنوات تفاوض عملية تركز على منع الانزلاق الإقليمى مقابل التزام تدريجى بمتطلبات القرار.
إن تطبيق القرار ٢٨٠٣ ليس مهمة تقنية أو إجرائية، بل هو لحظة اختبار لإرادة المجتمع الدولى وقدرته على التحرك خارج دائرة البيانات. وهو أيضًا اختبار لقدرة الأطراف العربية، ومصر تحديدًا، على إعادة ترتيب بيئة سياسية إقليمية تتسم بكثرة الفاعلين واختلاف الحسابات. قد لا يتحقق التنفيذ الكامل للقرار دفعة واحدة، وقد تواجه كل مرحلة عراقيل ميدانية وسياسية، إلا أن البديل عن محاولة التطبيق الجدى هو استمرار المأساة الإنسانية، وتعميق بنية الصراع، وإضعاف أى أفق سياسى واقعى فى المدى القريب.
• • •
من هنا، فإن الدور المصرى لا يقتصر على الوساطة، بل يتعداه إلى إعادة بناء مسار دبلوماسى عربى قادر على تحويل القرار ٢٨٠٣ إلى إطار سياسى ملزم، وإلى بناء مقاربة واقعية لإنهاء الاحتلال وإعادة الاعتبار للحقوق الفلسطينية. هذا الدور يحتاج إلى جهد دؤوب، وإلى شبكة تنسيق واسعة، وإلى استعداد للتعامل مع ضغوط دولية وإقليمية، لكنه فى المقابل يمنح القاهرة فرصة لإعادة تعزيز موقعها المركزى فى النظام الإقليمى، ولتحويل الأزمة الراهنة إلى نقطة انطلاق نحو مسار سياسى أكثر توازنًا واستدامة.
فى التحليل الأخير، يظل جوهر القضية واضحًا: المأساة الإنسانية فى غزة لن تنتهى دون وقف شامل لإطلاق النار، والوقف لن يكون مستدامًا دون أفق سياسى، والأفق السياسى لن يكون واقعيًا دون دور عربى قيادى قادر على التفاوض والتأثير وتقديم رؤية متماسكة. والقرار ٢٨٠٣، رغم تعقيداته وحدود قوته، يمثل فرصة نادرة لصياغة هذا المسار. ومصر، بما تحمله من وزن إقليمى ودبلوماسى، تبقى المرشح الأقدر لقيادة الجهد نحو تحويل الفرصة إلى واقع، وإنهاء أحد أكثر الفصول مأساوية فى تاريخ الصراع، وفتح الباب أمام تسوية سياسية تعيد الاعتبار للعدالة والحقوق وتمنح المنطقة حدًا أدنى من الاستقرار المفقود.
أستاذ العلوم السياسية ومدير برنامج الشرق الأوسط فى مؤسسة كارنيجى للسلام الدولى