وردة وبيت ودبكة - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 2:21 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

وردة وبيت ودبكة

نشر فى : الخميس 6 أبريل 2017 - 9:10 م | آخر تحديث : الخميس 6 أبريل 2017 - 9:10 م

يوجد ارتباط ما بين شدة التهديدات التى نتعرض لها ودرجة تمسكنا بالحياة، فكلما تضاءلت فرص النجاة زاد تشبثنا بالتفاصيل الصغيرة التى اعتدنا عليها لنثبِّت لأنفسنا أن شيئا لم يتغير. فى كل الصراعات الطويلة ــ وكثيرا منها يجرى على الأرض العربية ــ يتأقلم الناس بشكل مدهش مع واقعهم وينبشون فيه عن بارقة أمل تبشِّرهم بغد أفضل. صعب جدا أن تظل المشاعر مسنونة كالرماح فى صراع يدوم لسنين والأرجح أن يفعل قانون الطبيعة فعله فيرخى الأعصاب ويسكن الخواطر ويجبر الألم.

كان هذا أول خاطر تداعى إلى ذهنى وأنا أطالع صورة طفلتين سوريتين جميلتين من حى دوما فى ريف دمشق وهما تبتسمان لعدسة المصور ويداهما متشابكتان. الفتاة الأولى فى حوالى الثامنة من عمرها فيما الأخرى فى الخامسة تقريبا، أى أنها ولدت بعد الثورة السورية وعاشت ويلاتها من الألف إلى الياء. ارتدت الطفلتان ثيابا مهندمة باللونين الأزرق والبرتقالى، وزينت الكبرى شعرها الأسود القصير بوردة حمراء. خلت خلفية الصورة من مشاهد الدمار وظهر طبق هوائى على سطح أحد المنازل، حتى أنه لو لم تكن لأحد فكرة خلفية عن دوما وما يجرى فيها وفِى محيطها لتراءى له أن الصورة فى مدينة عربية آمنة مع أن الواقع لا يمتُّ لذلك بصلة. عاصرت ولادة الطفلة الصغيرة فيما يبدو بداية فرض الحصار على حى دوما نهاية ٢٠١٢ ومطلع ٢٠١٣ ففتحت عينيها على ما ظنته من طبيعة المدينة وما هو من طبيعتها، لعلها تصورت أن الأصل فى الأرجوحة أن تُصنع من دانتّى مدفعين يربط بينهما حبل غليظ يحتمل الجلوس عليه فهكذا هى أرجوحتها، أو لعلها فهمت أن فنجان القهوة الصباحى الذى يحتسيه أبوها إنما صُنِع من الذرة المحمصة مضافا إليها بعض وحدات الحبهان فتلك هى بالفعل مكونات قهوته، أو شُبِه لها أن البضائع فى كل مدن العالم تمر عبر أنفاق فى باطن الأرض فمن تلك الأنفاق جاءت لُعبها وكراريسها وثيابها والأسلحة التى تراها فى أيدى الجميع، هذه هى المفردات المتداولة من حولها بغير زيادة أو نقصان، وعندما يأذن الله وتضع الحرب أوزارها سيرسم الخروج الأول لهذه الطفلة علامات دهشة كبيرة على وجهها حين تكتشف أن العالم ليس حى دوما.
***
تحكى السيدة سعاد خبية ــ الصحفية والناشطة السياسية وابنة دوما التى هاجرت منها إلى بلدها الثانى مصر ــ كيف كان العام الأول لحصار حيها قاسيا إلى حد ألجأ أهله لتناول علف الحيوانات، فرغت خزائن الطعام فى البيوت والمتاجر فلم يجد الناس ما يتقوتون به إلا هذا العلف، عافوه بداية ثم ما لبثوا أن ألفوا مذاقه واستطابوه حتى راحوا يصنعون منه المعمول أو الحلوى الشامية الشهيرة التى لا يكاد يخلو منها بيت منها فى الأعياد والمناسبات. عاشت الفتاة الكبرى غالبا على هذا الطعام نفسه قبل أن تنشط تجارة البضائع المهربة وتتوافر بعض السلع «الآدمية» فى الأسواق. لكن معاناتها من حصار النظام والقصف المجنون وتبدل أحوال أسرتها من اليسر إلا العسر ليست الوحيدة، فقد أضاف لها حضور جيش الإسلام فى المشهد بصراعاته وقوانينه أبعادا جديدة، ووسط كل هذه التعقيدات يأتى ظهور الوردة الحمراء على شعرها المصفوف فإذا هو ظهور محبب ومُطبِع ولطيف.
***
غير بعيد عن سوريا وتحديدا فى غزة واجهت ثلاث مهندسات شابات واقع الحصار الخانق على القطاع والقيود المفروضة على استيراد مواد البناء بفكرة مبتكرة. تمكنت الشابات الثلاث من تحويل نفايات الزجاج إلى مادة أسمنتية صلبة تستخدم فى البناء وأجرين اختبارات ناجحة عليها فى معمل الجامعة الإسلامية بغزة. حين تأملتُ الخبر المنشور قبل عدة أيام فى جريدة الحياة وجدته محملا بعدة معانٍ طيبة تبعث على التفاؤل، المعنى الأول أن منبع الفكرة ثلاث نساء فلسطينيات فى مقتبل العمر، وهكذا هى دائما المرأة تصقل التجارب الصعبة شخصيتها وتفجر المحن القاسية قدراتها فما بالك بالمرأة الفلسطينية التى كُتِب عليها النضال ضد الاحتلال منذ قرابة سبعين عاما كاملة؟. والمعنى الثانى أن جهد هؤلاء النساء اتجه للعمران أى للمستقبل وأكد تشبث الأجيال الجديدة بالأرض والمكان، من ذَا الذى يزعم أن هذه الأرض لا شعب لها؟. والثالث أن هؤلاء النساء الثلاث يعرفن حق المعرفة أن طلعة جوية إسرائيلية واحدة قادرة على هدم عشرات المبانى على رءوس أصحابها لكنهن يردن القول إننا سنواجه التدمير بمزيد من البناء والتعمير. وهكذا وبينما ينهمك الساسة العرب فى المفاضلة بين حل الدولة وحل الدولتين وفِى حين ينقسم الفلسطينيون بين فتح وحماس تتقدم بعض النساء إلى طليعة المشهد لإثبات الحضور وكسر الحصار.
***
أما هذا الڤيديو الذى ذاع على مواقع التواصل الاجتماعى فحكايته حكاية، ومع أن تاريخه يعود إلى عامين إلا أننى لم أشاهده إلا مؤخرا. مجموعة من المجندات فى قوات البيشمركة فى كردستان العراق يلبسن الملابس العسكرية داخل أحد المعسكرات ويرقصن رقصة الدبكة بمهارة فائقة وحماس، يبدأ الصف ببضع مجندات ثم لا يلبث أن يطول أكثر فأكثر فيما يظهر أنه استراحة قصيرة للمحاربات. دع عنك السياسة وتشابكاتها، اترك خلفك الصراع حول علم كركوك والحدود التى يرسمها الدم واستفتاء تقرير المصير وتأمل بشكل إنسانى هذه اللقطة وأظنك ستدرك كم هى بديعة. نعرف عن بسالة الكرديات ما نعرف، لكن هذا الڤيديو يقدم لنا جانبا آخر من جوانب شخصية نساء البيشمركة الكردية ذكرنى بمشهد المجندين الذين يأمرهم قائدهم بأن يستريحوا فإذا هم يتحللون من انضباطهم لدقائق معدودات. تحللت نساء البيشمركة بدورهن من صرامتهن، تشابكت أذرعهن ودبَّت أقدامهن الأرض بقوة ورحن يرقصن على وقع الطبلة والمزمار رقصة ربما تكون رقصتهن الأخيرة. استثمار فى الحياة حتى الرمق الأخير وتحايل على صعابها برقصة، وياله من معنى.
أحببت جدا هذه الوردة وهذا البيت وتلك الدبكة، أحببت الأسلحة البسيطة للشعوب التى تقاوم بها أعتى الظواهر وأشرسها، أحببت أن أرى المرأة تبحث وسط الظلام عن نقطة ضوء تتلألأ على شعرها أو تطل من بنات أفكارها أو تشع من رشاقة حركتها.. أحببت ذلك لأن الهزائم تبدأ من داخل النفس والانتصارات أيضا.

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات