الدراما بين الفن والتاريخ.. وجهة نظر! - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 11:02 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الدراما بين الفن والتاريخ.. وجهة نظر!

نشر فى : السبت 6 مايو 2023 - 8:40 م | آخر تحديث : السبت 6 مايو 2023 - 8:40 م
(1 )
فى رحاب مركز جامعة القاهر للغة والثقافة العربية، وبدعوة كريمة من مديره الدكتور أحمد عادل عمار أستاذ الأدب الحديث بكلية الآداب، دارت ندوة رائعة (عبر برنامج الزوم) قبل أيام قليلة من انقضاء الشهر الفضيل حول الدراما التاريخية، تحدث فيها كل من أستاذ التاريخ المعروف والروائى أيضا الدكتور محمد عفيفى، والناقد السينمائى اللامع والسيناريست رامى عبدالرازق، وأدارها وشارك فى المناقشة والحوار كاتب هذه السطور.
الموضوع مهم وشغل ــ ويشغل ما زال ــ مساحة كبيرة من النقاش، ويتجدد الجدل مع كل مسلسل درامى أو عمل فنى يستلهم أحداثه من التاريخ أو يطرح أسئلته وهمومه المعاصرة من خلال التقنع بقناع الشخصيات التاريخية؛ سياسية كانت أم دينية أم فكرية أم غير ذلك.
وبذكاء شديد يرصد الكاتب الكبير نبيل عبدالفتاح (فى مقاله «الدراما والكتابة والواقع المراوغ»، المنشور بموقع «باب مصر»، بتاريخ 19 أبريل 2023) ظاهرة تحول مواقع التواصل الاجتماعى المفتوحة على مصراعيها ــ ومعها أنظمة الرقابة الرقمية ــ إلى سجالات، وتفضيلات، وتحبيذات وتحيزات، ورفض، وقبول. وهجاءات للأعمال الدرامية التلفازية التى تعرض على شاشات التلفزة، والألواح الرقمية، والمنصات!
إنها حالة «شبه عامة، تظهر الاتجاهات السائدة، واهتمامات الجماهير الرقمية الغفيرة، وبعض المثقفين، وأولوياتهم التى تحولت إلى الأعمال الدرامية. بعضهم يستخدمها فى الهجوم على الشركات المنتجة، كغطاء للهجوم السياسى على ما وراءها سياسيّا، فى أجهزة الدولة! بعضهم الآخر يوظفها فى تأويلاته التاريخية المسطحة والتى تصل إلى حد التفاهة، وعدم المعرفة بتاريخ كل دولة ومجتمع! أو المعرفة المبتسرة، أو صراع التأويلات السطحية دونما سند معلوماتى، أو منهجى!».
(2 )
وقد ثار جدل كبير عقب عرض الحلقات الأولى من مسلسل «رسالة الإمام» فى رمضان المنقضى، وكالعادة انقسم الناس إلى فسطاطين؛ الأول متحزب ومتهجم وبضراوة ضد المسلسل، ومتهمين صناعه بالعبث بالتاريخ وبتشويه سيرة الإمام الشافعى.. إلخ ما هو محفوظ ومتداول فى مثل هذه الأمور!
والثانى معجب ومقدر للعمل، ويرى فيه محاولة ناضجة لتقديم قراءة ومعالجة معاصرة لسيرة الإمام؛ فليس غرضها (غرض هذه المحاولة) التأريخ له أو عرض سيرته بشكل تقليدى أو سرد كلاسيكى لمعلومات تاريخية بطريقة مسرحية، مما هو معروف ويسهل الوصول إليه فى الكتب والمراجع والمظان التاريخية الموثقة، إنما طرح رؤية تتصل بهمومنا المعاصرة وأسئلتنا الإشكالية وتصوراتنا لأزماتنا الجذرية العميقة فيما يخص علاقتنا بالاجتهادات التى قدمت عبر التاريخ فى دائرة الفكر الدينى «البشرى» الذى اتخذ من النصوص المقدسة موضوعا له!
كذلك فإن مسلسل سيرة الإمام ــ وهذا يحسب له تماما ــ قد أثار فضول الكثيرين (واستفز أضعافهم) فاتجه كل فريق إلى التنقيب فى الكتب والنصوص المؤيدة والمعارضة على السواء ليثبت كل منهم وجهة نظره! والحقيقة أن الحاصل والنتيجة النهائية لكل ما دار من جدل وخصومات وصل إلى حد العنف والتكفير أحيانا على صفحات السوشيال ميديا (وخاصة من أنصار تيارات الإسلام السياسى) أنه ليست هناك حقيقة واحدة مطلقة! أبدا! وليس هناك رأى واحد ملزم للجميع، فالكل يختلف فى القراءة والتفسير والنظر والتأويل.
(3 )
وأظن أن سجن الاحتكار والواحدية المطلقة فى الرأى والتأبيد فى التمسك ببعض الأحكام؛ كل ذلك الذى استمات المحافظون التقليديون فى الدفاع عنه بشراسة طيلة ما يزيد على عشرة قرون! قد بدأ يتقوض ويُجترح وتنشرخُ القشرة الصلبة التى تكلست وتحجرت حول ميراث «الفكر الدينى» أو التاريخ المتصل بأحداث ووقائع وشخصيات اتصلت باجتهاد دينى أو دعوة دينية.
ولعلّ كذلك من بين أهمّ ما يمكن أن يثيره عمل فنى (مسلسل درامى أو فيلم روائى أو حتى تسجيلى) هو أن يدعو متلقيه للبحث الجاد، وطرح الأسئلة والسعى وراء الفهم، وطلب المعرفة وإعادة النظر مجددا فى موضوعات وقضايا فُرض عليها سياجٌ غير مبررٍ من الغموض الكثيف أو التهميش أو قصرها، دون أى مبرر أيضا، على فئات ودوائر بعينها.
من أهم ما تقدمه الدراما التليفزيونية للمشاهد العادى، من بين أشياء كثيرة، إثارة فضوله المعرفى ونزع القداسة عن كل ما هو بشرى، وحثه على طرح الأسئلة الدقيقة والعميقة حول الموضوع أو الشخصية التاريخية التى يجسدها العمل الفنى، بل إنها تصل فى بعض الأحيان إلى معاودة النظر كليا حول ما يتعلق بهذه الشخصية وتفاصيلها وأدوارها من الألف إلى الياء.
(4 )
من أهم ما طُرح فى هذه الندوة المهمة، هو التأكيد على واحدٍ من المبادئ الأساسية التى استقرت فى دائرة إبداع الأعمال الفنية المستلهمة من «التاريخ» أو التى تعالج موضوعاتٍ تاريخية أو تتصل بشخصية أو حقبة أو مرحلة تاريخية ما.
ذلك المبدأ الأساسى الذى التزمت به الرواية التاريخية‏ منذ بواكيرها، وتطوراتها اللاحقة،‏ وهو محاولة بعث الفترة التاريخية المقصودة أو المستلهمة بكل حيويتها، وإطلاق حرية الخيال فى تلوينها‏،‏ مع عدم الاعتداء على ما استقر فى الذاكرة من أحداثها الكبرى‏،‏ ومع ذلك تظل مساحة التخييل شاملة للتفاصيل‏،‏ وقادرة على إعادة الاكتشاف والتأويل‏،‏ لأن قانون «الإمكان والاحتمال» الذى سنَّه أرسطو للدراما ما زال فاعلا فى تحديد شروطها‏،‏ كما يقول الناقد الراحل الدكتور صلاح فضل.
فليس من الحتمى توثيق الحوادث فى الفن‏،‏ بل يكفى أن تخضع للمنطق والاحتمال‏،‏ ويصبح دور الخيال الخلاق هو ابتكار الأحداث والشخوص والحوارات التى تكشف منطق النتائج التاريخية المعروفة، وتجلو أسبابها العميقة بما لم يكن واضحا فى المدارك فى حينها.
(5 )
فإذا اعتمدنا هذا المبدأ وحددنا كذلك أن غرض المسلسل التاريخى ليس فى الأساس عرض التاريخ أو تعليمه أو مسرحته إنما هو استلهام ومعالجة دقيقة للواقع وهمومه وإشكالاته وأسئلته الراهنة حتى لو كان زمن الرواية أو المسلسل يدور فى العصر المملوكى أو العثمانى أو ما قبلهما!
(وللحديث بقية)