دانيال ومدينة الخيوط.. مفاتيح للدخول - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 12:51 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

دانيال ومدينة الخيوط.. مفاتيح للدخول

نشر فى : السبت 6 أغسطس 2022 - 7:25 م | آخر تحديث : السبت 6 أغسطس 2022 - 7:25 م

مثل المدينة العجيبة التى تحكى عنها، وعالمها الفريد، البعيد والقريب معا، تبدو رواية «عصور دانيال فى مدينة الخيوط»، لمؤلفها أحمد عبداللطيف، والصادرة عن دار العين، نصا شديد الثراء، سواء فى أفكاره وأسئلته، أو فى ألعابه السردية التى تعبر عن مضمونه، أو فى هذه الأجواء الكابوسية، التى تلامس حدود العبث.
أفضل ما يمكن تناوله فى هذه نصوص، أن نقدم مفاتيح للقراءة والدخول، إذ لا يكفى أن يكون التناول أحاديا، فى كتابة قانونها الانقسام، ولعبة المرايا، وآلام التفكك والانشطار، ولا يكفى استخدام مفتاح واحد، لمدينة متعددة الأبواب.
ومثلما تؤدى الأبواب الكثيرة إلى المدينة نفسها، فإن مفاتيح القراءة تؤدى فى النهاية إلى قلب النص، الذى يستلهم ألوانا متعددة من الإحالات التراثية والدينية والموسيقية والواقعية، ليصنع فى النهاية عالمه الخاص، وموسيقاه المتفردة.
أول المفاتيح التى يجب ألا ينساها القارئ، هو أن الدخول إلى متاهة مدينة الخيوط، يتم دوما عبر مدينة ذات دانيال المفككة. الحكاية كلها تُروى عبر هذا التفكك الناتج عن انتهاكٍ قديم، أى أننا فى الحقيقة أمام مدينة تُروى عبر ذاتٍ مضطربة، ولكن الذات نفسها ضحية المدينة وأهلها، وضحية ظروفها. كل تناقضات المدينة، وجراحها، تنعكس على مرآة عقل دانيال، والنص فى النهاية هو حكاية المدينة ودانيال معا، يليق بها وتليق به.
المفتاح الثانى، هو أن تفكك ذات دانيال إلى شخصيات مختلفة، والانتقالات بين العصور الأربعة التى عاشها فى المدينة، ليست ألعابا مجانية منفصلة عن معاناة الشخصية العالقة فى الزمن، والتى تحاول أن تدفن جثث ماضيها، لكى تسترد ذاتها. اللعبة هى الرحلة كلها، وهى المخاض الطويل لامتلاك أرشيف يخص دانيال، ولكنها تزيد من عذاب دانيال، وتجعله أكثر تشاؤما ويأسا من تغيير أحواله، ومن نجاة مدينته، التى انسخط أهلها إلى عرائس، تحركها خيوط الماريونيت.
هذه المراوحة بين العصور تحقق فوضى مقصودة، تترجمها حكاية دانيال، وتكرار عدم مقدرته على تقدير الزمن، رغم ذكره لبعض التواريخ بشأن مولده، والحادث الذى غير حياته فى صباه... إلخ، كل ذلك يجعل الشخصية معلقة فى الهواء.
الإنسان المتأرجح بين ماضيه وحاضره، والذى يخرج من واقعه المعيش، إلى واقع مكتوب فى الأرشيف، يبدو فى كابوس بلا نهاية، يهرب من الواقع إلى الأرشيف، فيعيده الأرشيف الجنسى إلى ذاته، والى واقع المدينة. نحن إذن أمام شخصية تراجيدية، لا يمكن أن تكتب إلا ما تعيشه، وما تعيشه مضطرب ومختلط، يتدفق فيه السرد بلا علامات ترقيم أحيانا، وتظهر فيه هذه العلامات أحيانا أخرى، عندما تحكى الذات الأكثر بساطة وبراءة.
المفتاح الثالث، هو الاستخدام البارع لزوايا الرؤية المتعددة، وكأننا نرى كل شىء فى مرايا عاكسة، كل شىء انعكاس لآخر: فالمدينة ليست فقط فى الشارع والمكان والميدان والبنايات، ولكنها فى الأرشيف وملفاته وصوره، والأرشيف هو سر المدينة، ومكان محركى عرائس المدينة، وخيوطها الخفية.
ودانيال ليس هو الأول والثانى وإبراهيم فقط، ولكنه الحامل لاسم نبى السبى اليهودى «دانيال»، الذى اشتهر بتفسير الأحلام، وهو أيضا شبيه شوبان، الذى تتردد معزوفته رومانس لارجيتو لتصاحب الحكاية، وهى المعزوفة التى وصفها شوبان بأنها تمثل حنين شخص للعودة إلى ذاته.
إنها لعبة المرايا التى تجعل دانيال أمام دانيال، وتشطره بين النور والظل، بين الطفولة والبراءة، وبين الإثم والانتقام، بين العجز، ومحاولة رد الانتهاك، بين صوته المفكك، وصوت زوجته الذى يظهر فى رواية مكتوبة.
المفتاح الرابع، هو تعدد مستويات قراءة رحلة دانيال، نتيجة هذا المزيج الذى يجمع بين تفكيك المدينة، وتفكيك شخصية استثنائية، هى شخصية دانيال: فيمكن أن نقرأ الرحلة باعتبارها محاولة لمواجهة انقسام الذات، ودفن جثث الماضى، ويمكن أن نراها محاولة لاختبار حدود الإرادة، بالمحاولة وليس بالنجاح، وذلك فى مدينة لا أثر للإرادة فيها، إلى درجة أن أهلها صاروا عرائس ممتثلة لخيوطها، حتى تمرد العرائس فى الشوارع، أعاد لاعبى الماريونيت إلى الصورة، ليسيطروا من جديد.
ويمكن قراءة النص باعتباره محاولة لاكتشاف حدود المعرفة: معرفة دانيال النبى تسرد فى باب المعجزات، بينما نبوءة العرافة ببقاء الوليد دانيال هى بداية الشقاء والأزمة والخيبة، ومعرفة دانيال بانتهاك طفولته، هى بداية الانقسام والانفصال، ومعرفة والده بجزء مما جرى، هو بداية المعاناة جسدا وروحا وذاكرة.
المعرفة فى هذا النص عقاب وجودى مروع، تحمل الإنسان ما لا يطيق، ومعرفة البطل التراجيدى عادة هى بداية الكارثة، كما حدث مع «هاملت» و«أوديب».
دانيال رجل عرف الكثير عن نفسه، وعن المدينة، وعن الحياة، فحق له أن يتعذب، وأن تموت ذواته، ليبقى منه فى كل مرة جزء يتعذب، فى المدينة، أو فى الأرشيف.
المفتاح الخامس، هو أن هذه الصور العبثية والسيريالية، لا تفقد دلالاتها ولا إحالاتها الواقعية: ليست مدينة خيالية تلك التى يوجد فيها ميدان باسم فينى، ولا تلك التى أغرقتها مياه الأمطار لعدة أيام، فى مشهد غير معتاد، ولكنه حاضر فى الذاكرة، وارتباط والد دانيال بجيل ثورة يوليو، وارتباط دانيال بمعظم سنوات مبارك، الذى تظهر أقواله فى الشارع، متزامنة مع ثنائية الانتهاك والانتقام، والإشارة إلى تمرد ما فى المدينة، كل ذلك يحيلنا إلى خصوصية الواقع، ويجعل مدينة دانيال، وذاته المعذبة، عنوانا لأحوال عامة، بقدر ما هى مرآة لذات مضطربة.
ليست ديستوبيا بالضبط، لأن الديستوبيا تتحدث عن كابوس مستقبلى، ودانيال هو كابوس الماضى الذى لا يزول. الجميع يجدون أنفسهم فى أرشيف دانيال، هو خيبات أجيال وقد تراكمت، وتكاثرت، لتقود القطار دوما إلى نهاية محتومة.
الأرشيف يسيطر على المدينة، والعرائس تنتشر، والشيخ المنتهك يموت، فيولد عشرات المنتهكين، ويصبح كل الأطفال فى خطر. «سفر دانيال» المعاصر تمخض عن دانيالات، وعن كثيرٍ من الأسفار.

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات