كيف ولد التفكير الإنسانى؟ - إكرام لمعي - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 7:04 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

كيف ولد التفكير الإنسانى؟

نشر فى : الجمعة 6 سبتمبر 2019 - 9:40 م | آخر تحديث : الجمعة 6 سبتمبر 2019 - 9:40 م

من المتوافق عليه تاريخيًا أن الإنسان منذ لحظة وجوده على الأرض هو كائن مفكر. لكن بظهور نظرية التطور بدأ البعض يتحدث عن تطور الفكر الإنسانى، وكما رفض كثيرون هذه النظرية لأنها تتعارض مع الكتب المقدسة قَبَلها كثيرون أيضا لكن الطرفين اتفقا على أن الإنسان ــ بلا شك ــ يتطور فى طريقة تفكيره، والدليل على ذلك الاكتشافات والاختراعات التى يعلن عنها كل يوم. من هنا بدأ الحديث عن متى وكيف اكتشف الإنسان ما أطلق عليه عضلة التفكير وتاريخ الفكر ومراحل تطوره، وهنا ظهرت مصطلحات الخرافة والأسطورة واللغة والمنطق.. إلخ
بادئ ذى بدء علينا أن نفرق بين مصطلح الخرافة ومصطلح الأسطورة، فالأسطورة جاءت فى الفكر الإنسانى بعد الخرافة. والخرافة هى تفسير الإنسان لمظاهر الطبيعة (الفيضانات ــ الرعد ــ البرق ــ الزلازل... إلخ)، على أنها من تدبير كائنات خرافية تحاول قتل الإنسان.
أما الأسطورة فهى الحكاية التى ألفها الإنسان لكى يفسر بها ليس مظاهر الطبيعة فحسب لكن سر الكون، ومن هنا بدأ ما يسمى وعى الإنسان أو الوعى عند الإنسان بذاته والكون المحيط به، وهناك فارق كبير بين أن يخترع الإنسان الأسطورة ويصدقها ويحكيها، وبين أن يعى دلالتها وإلى ماذا تشير وتهدف، ولقد عاش الإنسان الأسطورة منذ بدء وعيه ــ كما ذكرنا ــ لكنه احتاج إلى زمن طويل قبل أن ينتقل إلى عملية تحليل الأسطورة وإدراك جذور ابتكار الإنسان لها، واستطاع أن يدرك ذلك عن طريق الشعراء، ثم لاحقًا بعد ذلك الفلاسفة. فقد اكتشف أنه كان ــ من دون وعى واضح منه ــ يؤرخ فى الأسطورة لنفسه، وتاريخه، وكينونته، ووجوده فى الكون... ومن هذا الإطار نجد أن وعى الإنسان بالأسطورة بدأ مبكرًا على الأقل مع الفكر الإغريقى، لكن علينا أن ندرك أن هذا الوعى الإنسانى بالأسطورة (بطريقة منهجية) وربطه بصورة واضحة ونهائية بتاريخ الوعى والتجربة الإنسانيين وصولا إلى الذروة ابتداء من عصر النهضة الأوروبية، وصولًا إلى عصر التنوير، حيث أفرد الفلاسفة مؤلفات كثيرة ومهمة من أهمها كتاب «فلسفة الأساطير» للألمانى شيلنج 1775 ــ 1854. فى هذا الكتاب يقول إن الإنسان منذ البدء شعر بحاجته إلى اختراع الأسطورة وجعلها جزءًا أساسيًا من حياته، فمنذ بداية الوعى الإنسانى، وقبل أن يخترع العقل البشرى أى شىء آخر وقبل أن يصل إلى أى أفكار أخرى بما فى ذلك الأفكار الدينية، اخترع الحكاية التى كانت هى الأسطورة فى البداية.
***
وعلى مر الزمن طور الإنسان علاقته بالأسطورة التى سرعان ما أصبحت جزءًا أساسيًا من تاريخ الوعى الإنسانى وتعبيرًا عن توق الإنسان، حتى قبل أن يتفلسف مع الإغريقيين إلى طرح أسئلته عن سر وهدف وجوده فى هذا الكون، وسر هذا الوجود، والقوة التى ساوره منذ البداية شعور جاد بأنها تسّير هذا الوجود، ومن البديهى أن بحث الإنسان عن معنى الأسطورة تأخر كثيرا عن الزمن الذى وجدت فيه الأسطورة نفسها، ولكن من الواضح أن الأسئلة عن الأسطورة طُرحت منذ زمن بعيد، أى قبل شيلنج وغيره. أما ما قام به هؤلاء الفلاسفة فإنما كان محاولة فلسفة الأسطورة وربطها بوعى الإنسان، ومن ثم منهجه تاريخها كجزء أساسى من أجزاء الوعى الإنسانى وتطوره إذ تحول الإنسان إلى إنسان واعٍ.
فى هذا الكتاب يقول شيلنج إن فلسفة التاريخ والأسطورة عنصران متكاملان، وينقسم الكتاب إلى قسمين القسم الأول بعنوان «التوحيد» وهو عبارة عن مقدمة فلسفية ثم الجزء الثانى بحث فى فلسفة الأساطير، ويبدأ هذا الجزء بالقول «إن الأسطورة لكى تكون كأساس للوصول إلى فلسفة حقيقية، يجب عليها أن تكون شيئًا آخر غير الصورة السائدة.. أى شىء آخر غير ذلك التتابع القصصى، عليها أن تحتوى على حقيقة خاصة بها»، وهذه الحقيقة تكمن ــ فى نظر شيلنج فى واقع أن الأساطير هى فى الأصل سيرورة إلهية ــ كونية أى إعلان الله عن ذاته من خلال الطبيعة والكون (فى الأفاق وفى أنفسهم) قرآن كريم و(السموات تحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه) الكتاب المقدس. وهذه تتحقق داخل الوعى البشرى لا خارجه، وهذا كله قبل عصر الأنبياء والكتب المقدسة، وهنا نرى مبادئ السيرورة هى نفسها مبادئ الكينونة.. بمعنى أن ما نحن بصدده هنا والآن إنما هو سيرورة تطور العالم الشاملة والمطلقة، ومن هنا يرى شيلنج أن الابتكارات والاكتشافات والإعلانات التى توصل إليها الوعى الإنسانى على مدى مئات الآلاف من السنين إنما هى تصور الخالق بوصفه إلهًا واحدًا، أى إلهًا منطلقًا من ذاته. وإن كان الوعى البشرى قد وصل إلى هذا من طريق أشكال وأساليب متنوعة، فإن الخالق طبقًا لهذا التصور، هو مركز وقوة الكينونة، أى الكينونة المطلقة، وهذا الكائن المطلق أو الكينونة المطلقة لابد أن يكون له تموضع ذاتى فأى كينونة لها ذات. والتموضع الذاتى للكينونة هى (الروح) فالأبعاد الثلاثة هى كينونة مطلقة لها ذات (روح) وأنه من أجل الوصول إلى هذه الكينونة يتوجب أن يكون ثمة فعل، والفعل هنا ينم عن إرادة (فعل الإرادة الإلهية) إن الخالق هو الذى يريد، هو الإرادة ذاتها، إرادة الكينونة وهذه الإرادة تتجلى عن طريق سيرورة خلاقة لها امتداداتها فى الوعى البشرى. انطلاقًا من هنا يرى شيلنج أن عملية الخلق الذاتى المتواصلة هى هذه التى يدركها الوعى الإنسانى على أشكال كثيرة ومتنوعة.
من هنا كانت حقبة آلهة اليونان والرومان والهندوس القديمة السابقة على الأديان التوحيدية... إلخ تمهيدا لإدراك الخالق بشكل اكثر وضوحا.
***
لكن يأتى سؤال يقف عنده شيلنج هو العلاقة الثلاثية بين إدراك وحدانية الله وإرادته من جهة، والأسطورة من جهة أخرى، والوعى الإنسانى من جهة ثالثة.
أى وعى الإنسان بالأسطورة ووعيه بالله الواحد وإرادته.. يقول: إن تختلف الأشكال التى اخترعها الإنسان فى شكل حكايات وأساطير تعبر عن اختباراته فى سيرورته التاريخية، وتطور مختلف هذه الأشكال التى تمكنت التجربة الإنسانية عبرها من خلال نزعة موضوعية محولة تاريخية وتاريخ وعيها إلى تصورات ومفاهيم فلسفية وألوهية.. وذلك عن طريق تتبع مسار الأسطورة وعلاقتها بالوعى الإنسانى الناتج عن تلك التجربة.
ويضيف المفكر المصرى عبدالرحمن بدوى إلى هذا أن شيلنج إنما بدأ بحثه كله عبر طرحه ثلاثة أسئلة هى التى تخطر ببال الإنسان العادى حين يجد نفسه فى إزاء الأساطير: كيف ينبغى أن تفهم الأساطير؟! ما معناها أو المعانى التى تقدمها؟ وكيف حدثت؟

إكرام لمعي  أستاذ مقارنة الأديان
التعليقات