أزمة النظام الدولى مع رجل العصابة - مصطفى كامل السيد - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 4:25 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أزمة النظام الدولى مع رجل العصابة

نشر فى : الأحد 7 يونيو 2020 - 10:55 م | آخر تحديث : الأحد 7 يونيو 2020 - 10:55 م

أبادر بالتأكيد للقارئ أن وصف رجل العصابة الذى أستخدمه فى عنوان هذا المقال ليس توصيفا أخلاقيا لشخص من الأشخاص، ولكنه التعبير العلمى gangster الذى استخدمه علماء السياسة من الأمريكيين لتحليل نمط تصرف الدولة التى كانت تهيمن على النظام الدولى، ثم أدركت أن هيمنتها تتوارى، وتلقى التحدى من دول أخرى تسعى لاحتلال موقعها على قمة هذا النظام. والنظرية التى ورد فيها هذا التحليل يعرفها المتخصصون فى العلاقات الدولية والاقتصاد السياسى الدولى تحت مسمى « الهيمنة المستقرة» Hegemonic Stabiliy، وليسمح لى القراء أن أشرحها باختصار قبل أن أعول عليها فى التنبؤ بنتائج فقدان الهيمنة عالميا وإقليميا، وهى النتائج الجسيمة التى ظهرت أولى معالمها فى السنوات الأخيرة.
يطرح رواد هذه النظرية ومنهم شارلس كيندلبرجر وستيفن كرايزنر وروبرت جيلبين أن استقرار النظام الدولى فى أى مرحلة يتطلب وجود دولة قادرة على اكتساب قيادتها لهذا النظام ليس فقط بسبب تفوق قدراتها الاقتصادية والعسكرية فى مواجهة كل القوى الأخرى التى يمكن لها أن تتحداها، ولكن لأن قيادتها للنظام الدولى مقبولة لأن نظامها الاقتصادى والسياسى يبدو أنه أيضا الأفضل من حيث شرعيته الداخلية، ولأنها أيضا على استعداد لتوفير الموارد للدول الأخرى التى ترغب فى اتباع هذا النظام، ومن ثم ترحب الدول الأخرى بمثل هذه القيادة القادرة والسخية فى نفس الوقت. وذكر هؤلاء المفكرون أن مثل هذا الدور قامت به هولندا فى القرن السابع عشر، ثم تولته بريطانيا فى القرنين التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، وخلفتها فى ذلك الولايات المتحدة حتى بدايات القرن الحادى والعشرين الذى يشهد فى الوقت الحاضر أفول هذه الهيمنة.
كما هو معروف انتقل هذا الدور للولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية، والتى خرجت منها منتصرة بفضل تحالفها مع كل من بريطانيا والاتحاد السوفيتى، كان اقتصادها هو الأقوى الذى لم يعان من دمار الحرب مثلما كان الحال مع حليفتيها، وكانت قوتها العسكرية هى الأكثر تفوقا وانتشارا، وخصوصا أنها احتكرت السلاح النووى قبل تفجير الاتحاد السوفيتى لقنبلته الذرية الأولى فى ١٩٤٩، كما كانت جامعاتها هى الأكثر جاذبية للطلاب والعلماء من جميع أنحاء العالم، وذاعت الثقافة الأمريكية خصوصا من خلال أفلام هوليوود، وصار نمط الحياة الأمريكية نمطا خلابا يأخذ بألباب الطبقة الوسطى فى جميع أنحاء العالم، ومن خلال أدواتها الإعلامية بشرت الولايات المتحدة بأن نظامها السياسى القائم على الحزبين الكبيرين وتداول السلطة من خلال صناديق الانتخاب هو الأجدر بالاتباع خصوصا فى الدول التى تحررت من سيطرة أعدائها فى الحرب الثانية وهى ألمانيا وإيطاليا واليابان وحتى فى الدول التى أصبحت منطقة نفوذ للاتحاد السوفيتى الذى تحول بعد هذه الحرب من حليف لها إلى غريمها الأساسى فى النظام الدولى. وسهل قبول قيادتها خارج الكتلة الشيوعية استعدادها لمعاونة الدول الأخرى على تبنى نظامها الاقتصادى والسياسى، ليس فقط بفتح أسواقها أمام منتجات هذه الدول، ولكن بتقديم المساعدة الاقتصادية والفنية بل والعسكرية لها حتى تتبنى هذا النظام، وتتخفف من أعباء حماية أمنها. وهو ما فعلته من خلال مشروع مارشال فى غرب ووسط أوروبا، ومشروع شبيه له فى شرق آسيا مقترنا بتحالفات عسكرية، وكذلك بتقديم مساعدات مماثلة لدول أمريكا اللاتينية وآسيا وإفريقيا التى تحررت من السيطرة الاستعمارية.
طبعا تقديم المساعدة للدول الأخرى بهدف تشجيعها على تبنى النظام الاقتصادى والسياسى للدولة القائد فى النظام الدولى ليس نابعا من اعتبارات إيثار أخلاقية وقيم سخاء فى ثقافتها، ولكن لأنه يحقق المصلحة الاقتصادية لتلك الدولة، ففى الحالة البريطانية هى الدولة الصناعية الأولى، ومن ثم هى بحاجة إلى فتح الأسواق أمام منتجاتها، وفى حالة الولايات المتحدة هى أكبر اقتصاد فى العالم، واتسمت مؤسساتها الاقتصادية بالكفاءة والتى أصبحت نموذجا تتعلم منه مؤسسات الأعمال فى الدول الأخرى، ولذلك هى لا تخشى المنافسة داخل أسواقها، بل على العكس تستفيد من توافر واردات رخيصة الثمن من الدول الأخرى، وهى عندما يظهر أن تلك المنتجات تنافس زراعتها أو صناعتها، فهى فى هذه الحالات تخرج عن مبدأ حرية التجارة والمنافسة الذى تزعمت الدعوة له.
ولكن كما هو الحال فى كل النظم الإنسانية، فالهيمنة المستقرة تنطوى أيضا على تناقضات تؤدى إلى انهيارها. الدولة القائد قد تتردى أحوالها فى مجالات عديدة، مما تفقد معه مصداقيتها كالدولة النموذج، كما أن المساعدات التى قدمتها لدول كانت مهزومة عسكريا أو أقل تقدما سواء بطريق مباشر، أو بطريق غير مباشر من خلال فتح أسواقها، قد تنجح ليس فقط فى استعادة النمو فيها، بل وقد تصبح قادرة على منافسة الدولة القائد حتى داخل أسواقها وفى عقر دارها. ماذا تفعل الدولة القائد عندما ترى بوادر التحدى لمكانتها؟ هنا تقلع عما كانت تتسم به فى السابق من استعداد لمعاونة الآخرين، وتبدأ فى ابتزازهم. وهنا يأتى عنوان المقال، تأخذ فى التصرف ليس فقط كرجل عصابة ولكن كبلطجى. فتتخلى عن واجبات القيادة، وتطلب مقابلا لما تدعى تقديمه من خدمات.

حدود الهيمنة المستقرة

طبعا لا يمكن قبول هذه النظرية تماما، ولكنها كأى نظرية أخرى فى مجال العلوم الإنسانية تضىء جانبا من الواقع، ولا تكشف عن كل أبعاد هذا الواقع. هى تفسر بكل تأكيد لماذا استقرت القيادة الأمريكية على عدد كبير من الدول بعد الحرب العالمية الثانية. لم تستند القيادة فقط على القدرات الاقتصادية والعسكرية للولايات المتحدة، ولكن تصور النموذج الأمريكى الذى يجمع بين الحريات السياسية والاقتصادية والتقدم العلمى والازدهار الفنى ونمط الحياة الرغدة قد خلب ألباب الكثيرين فى أوروبا فى غربها وشرقها على السواء. وليس أدل على هذه الهيمنة من أن جورباتشوف قد لوح بالعودة إلى ما عرف فى الاتحاد السوفيتى بالسياسة الاقتصادية الجديدة والتى تقوم على تشجيع المشروع الخاص وجرى اتباعها لفترة بعد الثورة البلشفية كطريق لاستعادة النمو فى الاقتصاد السوفيتى، كما أن يلتسين من بعده التمس النصيحة فى خروج الاقتصاد الروسى من عثراته بعد سقوط الاتحاد السوفيتى من جيفرى ساكس الاقتصادى الأمريكى البارز، بل إن يلتسين قد استشار الرئيس الأمريكى جورج بوش الأب قبل إعلان قراره مع ثلاث من جمهوريات الاتحاد السوفيتى بالانفصال عن الاتحاد.
ولكن كنظرية للعلاقات الدولية، فالهيمنة لم تكن مستقرة تماما للولايات المتحدة فى أعقاب الحرب العالمية الثانية. كان التحدى الأساسى لهذه الهيمنة هو من جانب الدول الاشتراكية بقيادة الاتحاد السوفيتى، وسعت بعض دول الجنوب، ومنها مصر والهند ودول أخرى فى آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية لانتهاج نمط فى التنمية وبناء الدولة يختلف عن النموذج الذى دعت له الولايات المتحدة، كما سعت إلى طريق ثالث ليس فى أوضاعها الداخلية بل وفى سياساتها الخارجية، واعترضت على تدخل الولايات المتحدة عسكريا فى جنوب شرق آسيا وفى الشرق الأوسط، وأخيرا لم يتسق سلوك الولايات المتحدة كقائدة فى الدعوة للديمقراطية مع مساندتها القوية لنظم ديكتاتورية فى الشرق الأوسط وشرق آسيا وأمريكا اللاتينية.
ومن ثم يمكن القول إن تلك الهيمنة المستقرة كانت لها حدود شكلها وجود كتلة مناوئة تتمتع بقدرات عسكرية رادعة فى مواجهة الولايات المتحدة، وظهور عدد آخر من الدول رفض القيادة الأمريكية أصلا. والذى يهمنا أنه نتيجة لهذا التوازن فى النظام الدولى حرصت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى ومعظم دول العالم على الالتزام بقواعد النظام الدولى الذى ساهمت بعض هذه الدول مع كل من الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد السوفيتى فى إرساء معالمه بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.

سقوط الهيمنة وسلوك رجل العصابة

يمكن القول إن حرب الخليج الثانية التى دارت حول إخراج القوات العراقية من الكويت فى سنتى ١٩٩٠ــ١٩٩١، كانت هى العلامة البارزة على تأكد هيمنة الولايات المتحدة على النظام الدولى، فقد أيدتها كل دول العالم، وشارك كثير منها حتى على نحو رمزى فيها. ولم يعترض عليها لا الاتحاد السوفيتى ولا الصين، وفى الوطن العربى أرسلت كل من مصر وسوريا قواتها للمشاركة فى تحرير الكويت، وبتأييد من الأمم المتحدة.
وعلى العكس يمكن القول إن حرب الخليج الثالثة التى شنتها الولايات المتحدة على العراق بهدف إسقاط نظام صدام حسين كانت علامة على سقوط الهيمنة الأمريكية. لم تحصل الولايات المتحدة على تأييد مجلس الأمن أو الجمعية العامة للأمم المتحدة لهذا العمل، بل واعترضت عليه اثنتان من دول أمريكا الجنوبية التى كانت تعتبر الفناء الخلفى للولايات المتحدة، ودولتان حليفتان للولايات المتحدة وهما ألمانيا وفرنسا وهو الغزو الذى فتح المجال لتمدد نفوذ إيران عدو الولايات المتحدة فى الشرق الأوسط، بل وتحول إلى عبء على الولايات المتحدة لعجزها عن مقاومة الجماعات المتطرفة التى نشأت فى ظله أو وقف الخسائر بين جنودها مما دعاها للانسحاب فى ظل رئاسة أوباما. وتعددت بعد ذلك علامات سقوط الهيمنة دوليا وداخليا. أصبحت المنافسة الاقتصادية مع الدول التى كانت تلقت المساعدة من الولايات المتحدة أو فتحت لها أسواقها عبئا باتساع فجوة الميزان التجارى مع كل من الصين واليابان وألمانيا وكوريا الجنوبية، وضاقت الفجوة التكنولوجية مع الدول المنافسة لها فى مجالات التكنولوجيات الجديدة الواعدة وخصوصا مع الصين، وطرحت الصين نموذجها للتنمية منافسا للنموذج الأمريكى، وظهرت الشروخ الكبيرة فى النموذج الأمريكى ذاته، فاتساع الفجوة بين الفقراء والأغنياء سمة أساسية له، وهو لا يحترم على أرض الواقع المبادئ الأساسية التى يدعو دول العالم لاتباعها مثل المساواة فى الكرامة بين كل المواطنين، ولا يقيم رئيسها وزنا لحكم القانون ولا للرشادة فى صنع القرار بالتشاور مع كل من يهمهم أمره.

وهكذا تحولت الولايات المتحدة إلى اتباع أسلوب رجل العصابات gangster فى علاقاتها الدولية، فلا تسترشد بحكم القانون لا فى العلاقات مع حكام الولايات ولا مع المواطنين الذين يحتجون على التمييز العنصرى فى تعامل شرطتها مع المواطنين ذوى الأصول الإفريقية، ولا فى علاقاتها الدولية بالتغاضى مثلا عن أحكام القانون الدولى وقرارات الأمم المتحدة بالنسبة للقضية الفلسطينية، ولا مع منافسيها الاقتصاديين، فكلما ظهرت مشكلة مع إحدى تلك الدول المنافسة لجأت لفرض العقوبات أو رفع الرسوم الجمركية، وتهدد المنظمات الدولية التى لا تمارس أى سلطة فوق الحكومات بالتهديد بالانسحاب منها، وتطلب من حلفائها أن يدفعوا مقابلا للحماية العسكرية التى تدعى أنها توفرها لهم، بينما تخرج من رئيسها التصريحات التى تشكك فى قيمة هذه التحالفات، وهذا هو ما تمارسه مع حلفائها فى غرب ووسط أوروبا والشرق الأوسط.
خطورة أساليب البلطجة التى تمارسها دولة فقدت الهيمنة، هو أن هذا الأسلوب يصبح النمط السائد فى النظام الدولى، فطالما أن الدولة التى كان لها مكان قيادى فيه لا تحترم القانون، فإن آخرين لا يجدون حافزا لاتباعه، وفى غياب رابطة جامعة بين كتل من الدول تقوم على إيديولوجيا مشتركة كما كان الحال فى زمن القطبية الثنائية، يصبح المحدد الأساسى للسياسة الخارجية لأى دولة هو مصلحتها الوطنية كما يفسرها حكامها، ومن ثم تتعدد أسباب الصراع فى النظام الدولى بتعدد رؤى المصلحة الوطنية على كل من الصعيدين الدولى والإقليمى، والانتصار فى هذه الصراعات هو لمن يملك أساليب القوة العسكرية أو غيرها ويبرع فى استخدامها ويتخذ فى ذلك المبادرة. وهذا ما نلمسه من روسيا على الصعيد الدولى، ومن إسرائيل وتركيا وإيران بل وإثيوبيا على الصعيد الإقليمى.
ليس هناك احتمال فى المستقبل القريب أن تظهر قوة مهيمنة جديدة. فشروط ظهور هذه القوة لا تتوافر فى أى من المرشحين المحتملين، والأمل الوحيد هو أن يسود التعقل بين القوى الرئيسة فى النظام الدولى، ولكن بعد أن تدرك من خلال التجربة مخاطر سيادة أسلوب رجل العصابة فى العلاقات الدولية.

مصطفى كامل السيد أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة
التعليقات