بَلَادةٌ - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 8:35 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بَلَادةٌ

نشر فى : السبت 9 مارس 2019 - 12:40 ص | آخر تحديث : السبت 9 مارس 2019 - 12:40 ص

"حجة البليد مَسح التختة". سخريةٌ لاذعة، واستهزاءٌ ينال مِمَن يتذرَّع بحجج واهية؛ كي يتجنب اختبارًا يكشف ضحالته. التلميذُ الخائب يتخذ لنفسِه عذرًا كي لا يجيب إذا سُئلَ، وقد يفعل أيَّ شيء للمُمَاطلة، وللتهرُّب مِن حَرَج جهالته؛ فيطلب مثلًا الذهاب إلى دورة المياه، أو يتخذ مِن تنظيف السبورة وسيلةً لإطالة الوقتِ واستنفاذه. أغلبنا سمع العبارة الشهيرة، وربما واتته الفرصة أكثر مِن مرة لاستخدامها، فأغاظ بها مَن قَصَد.
***
البَلادَةُ في قواميس اللغة العربية هي نقيض النَّفاذِ والذَّكاءِ والمَضاءِ في الأُمور، وإذًا؛ يكون المرءُ بليدًا ما افتقر لهذه الصفات. للكلمة مُشتقات كُثر؛ فالبَلْدَةُ على سبيل المثال هي موضعٌ مِن السماء لا نجوم فيه، ويُقال بَلَّدَ السحابُ إذا لم يُمطِر، وبَلَّدَ الفَرَسُ إذا لم يَسْبِق، كما يُقال بَلَّدَ الرجلُ؛ إذا بَخَلَ فما جَادَ ولا أعطَى. تعكسُ مُفردةُ البلادةُ كذلك حالًا مِن الاستكانةِ والخُضوع، ويُقال عن الشخص الذي يتردَّد بسبب حيرته إنه مُتَبَلِّد، أما الإنسان الأَبْلَدُ فهو غليظُ الخَلْقِ.
***
كثيرنا والحالُ على ما أظن متشابهة؛ يذكر منذ أيام الدراسة ذاك الاتفاق الضمنيّ الذي لا تنظمه قواعدٌ مَكتوبة، أو تعليماتٌ شفهية، والذي يقضي بأن يجلس بلداءُ الفصل في آخر الصفوف. هؤلاء الذين يتحصَّلون على أدنى الدرجات، ويحوزون أسوأ التقديرات الشفاهية والعلامات؛ يحتلّون أماكنهم وراء الجميع؛ حيث لا ينتبهون لشرح، ولا يشاركون في نقاش، ولا يُكرَّمون بنياشين أو شهادات، كما لا يعبأون كثيرًا بالتوبيخ والعقاب. أحيانًا ما يُمنَح الوصفُ جُورًا للمَوصوُف، لا أذكر زميلاتِ الصفوف الأخيرة إلا بالخير؛ فمنهن المُتمردات على واقعٍ قاتمٍ عزَّ عليهن تغييره، ومِنهن صاحبات إبداع حقيقيّ لا يشوبه زيفٌ أو ادعاء؛ إنما وَجَدن في مَوقع البلادةِ راحةً مِن عديد الضغوط.
***
على كلّ؛ قد تنحصر البلادةُ في القُدرة على الحِفظ والتحصيل، وقد تمتَد إلى التفكير المَنهجيِّ السليم، وربما تترك هذا وذاك؛ لتضربَ مَواطِن الإحساس عند بعضِ الناس، وتعطّلها عن العمل تعطيلًا. يُقال عن بَليد الشعور إنَّ "جلده تخين"؛ كنايةً عن عدم تأثره بما يؤثر في الآخرين. الجلد "التخين" أو بتعبير لغويٍّ مُنضبط "السميك"؛ لا يستجيب. لا يقشَعرُّ خوفًا، ولا يتعرَّق قلقًا، ولا يقف شعره ألمًا. صاحبُ الجلد التخين لا تخترق روحَه الأشواكُ ولا تقضُّ مضجعَه، لا ينفعل كثيرًا؛ إذ لديه ما يحميه.
***
حين تتعاقب الصدماتُ وتتوالي المِحَن، تتوَلّد في نفوسنا صورةً مِن صور البلادة؛ بلادةٌ مُكتَسبة لا أصيلة، تضعنا في حالِ الجمود، وتضرب جدارًا عازلًا على أرواحَنا، وتجعلنا نتفاعل بالكاد، أو ربما لا نتفاعل مُطلقًا مع ما يمر بنا؛ ولو كان على مَبعدة ذراع واحدة. تقع مأساةٌ فنحدق فيها ساكنين، وتخبرنا الذاكرةُ المَشحونةُ بأنا قد مرت علينا مآسٍ شبيهة، وعبرت بنا بلوى وراء بلوى، فما اهتزَّ الكونُ ولا تبدَّل فيه شيءٌ؛ لا انهارت الأجرامُ، ولا انطبقت السماوات، ولا انفجرت الشموسُ. نُحدق مِن جديد ونتجاوز عما نرى، وفي أحشائنا يقينٌ بأن حدثًا آخر سيدهمنا عما قريب، وسنقف منه أيضًا مَوقِف البُلداءِ المُستكينين.
***
مرَّت علينا سنواتٌ مُبهِجَة، وقفنا فيها على أطرافِ أصابعنا؛ صائحين بحريةٍ كاملة، مُندّدين، مُهلّلين؛ كلَّما سقطت شجرة، أو تعثَّر عابر في حفرة، أو تصادمت سيارتان على الطريق. غدونا بعد حين نبتلع موت العشرات هنا وهناك، فلا يطرف لبعضنا جفنٌ، ولا يخرج مِن جوفِ البعض الآخر صوتٌ، ويبرز في المشهد مَن غمرته بلادةُ الحسِّ؛ ليعلن أن الحياةَ كهذا تسير، وأن الموتَ حَقٌّ، وأن الحَقَّ مَردود لوليّ الأمر، لا يُؤاخذ به ولا يُحاسَب عليه.
***
للحقّ ثمَّة فائدةٌ لا يُمكن إنكارها فيما صرنا إليه؛ فبلادتُنا المُتفاقمةُ تحمينا مِن الألم، وتُخفّف مِن كربنا المُتواصِل ومِن هَمِّنا المُقيم، لكن آلامَنا لا تنتهي بدورها ما طالت بنا البلادةُ، والدائرةُ لسوءِ الحظّ مُغلقةٌ؛ في فلكِها ندور. هناك حقيقةٌ مُوجعةٌ تقول: إذا سقط واحدٌ فمُصيبة، وإذا سقط مائةٌ فإحصائيةٌ طريفة. ربما تتجلى هذه الحقيقة أكثر ما يكون على أرضٍ مُحتلَّة؛ تتآكل شبرًا فشبر، شيوخها يسقطون، وأطفالها يُعتقَلون، ونساؤها يُعذَّبن؛ نازلةٌ كبرى لا تزال وقائعها تترى، وتبعاتها تتواتر ومشاهدها؛ لكنّا صرنا منها بمرور الوقت في بَلادةٍ، ورحنا نتعامل معها بتمام الفتور.

***
تتكلَّس المشاعر وتتقادم، تصبح كالحجارة، تحتاج إلى معولٍ يصنع فيها ثغرةً، ويتيح نفاذَ الضوءِ، ويمحو ما علق بها مِن شوائب. يجلوها ويعيدها حيَّة مُرهفة، لا تُعبِّدها النوازلُ، مَهمًا كانت شدتها، ومهمًا بلغ وقعها، وازدادت قسوتُها.
***
مِن الناس مَن يقاومون أفاعيل التبلُّد بهم، يحاولون الاحتفاظَ بمشاعر الدهشة، والصدمة، والفزع، وكذلك بقابليتهم لتذوُّق الفرح، والتمسَّك بالأمل، فرغم ما تخلعه البلادةُ على أصحابها مِن استرخاءٍ وهدوء؛ لكن آثارَها على الملامحِ وبصمَاتِها على القلوب؛ هي والموات سواء.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات