السيدة بتسي - داليا شمس - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 12:19 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

السيدة بتسي

نشر فى : السبت 9 مارس 2024 - 8:20 م | آخر تحديث : السبت 9 مارس 2024 - 8:20 م
ونحن فى خضم الاحتفالات باليوم العالمى للمرأة، أثارت اهتمامى بمحض المصادفة مسيرة سيدة كانت من ضمن رائدات الصحافة فى مصر، وهى بتسى نعوم كبابة (1869ــ1924)، زوجة بشارة تقلا أحد مؤسسى جريدة الأهرام. سيدة بشعر أسود معقود إلى الخلف وعينين واسعتين وقوام ممتلئ قليلا، توجد صورتها فى مكتب رئيس تحرير الأهرام اليومى ضمن مجموعة من الرجال تولوا قيادة الجريدة منذ تأسيسها. عرفت فى الأوساط الصحفية بلقب «المرأة الحديدية»، إذ كان لها الفضل الأكبر فى إدارة الأهرام بعد وفاة زوجها، فى الفترة ما بين 1899 و1912، إلى أن بلغ ابنها جبرائيل السن القانونية وأكمل تعليمه فى أوروبا حيث درس الحقوق والاقتصاد السياسى. وعند عودته إلى البلاد تسلم مهامه بنجاح فأنشأ أول مطبعة فى الشرق وجعل للأهرام مكاتب ومراسلين فى معظم عواصم العالم وانتخب نقيبا للصحفيين بالإجماع عام 1919، مع احتفاظ بتسى تقلا (Petsi) بحق الإشراف والمتابعة حتى وفاتها فى فيينا فى 12 أغسطس 1924 ودفنها فى القاهرة إلى جوار زوجها بمقابر الروم الكاثوليك فى مصر القديمة أمام المتحف القبطى.
• • •
حين تولت زمام الأمور وكان ابنها لم يتعد التاسعة من عمره، قررت نقل مقر الجريدة من الإسكندرية إلى شارع مظلوم بوسط القاهرة، كما أصدرت نسخة بالفرنسية إلى جانب العربية وأطلقت عليها Pyramides أو الأهرامات. لم تنطبق عليها صورة المرأة الشرقية التقليدية على الإطلاق، بل دعت على صفحات الأهرام إلى تحرير الفتاة العربية وحقها فى العلم والعمل وإلى التآخى المذهبى ونبذ الأحقاد والصراعات الطائفية. وقد كانت عضوة فى لجنة الوفد المركزية للسيدات المصريات واستقالت منها ضمن أخريات اعتراضا منهن على فكرة النقاش والتفاوض مع الإنجليز، قائلات: «نحن لا نريد ولا نقبل مفاوضة معهم بأى شكل كان، ولا نريد سوى الاستقلال دون قيد أو شرط». لم يكن موقفها مفاجئا إذ تمتع آل تقلا رسميا بالحماية الفرنسية، ولم يتورعوا عام 1884 عن نشر مقالة عنيفة تتهم فيها الحكومة المصرية بالولاء المطلق للإنجليز، وحين تولت بتسى الإدارة منفردة كان الصراع على أشده بين سياسة «الأهرام» (الفرنسية النزعة) و«المقطم» (البريطانية الهوى). وبشكل عام لا يمكن فهم دور الجالية السورية ــ اللبنانية خلال سيطرة الأجانب على مصر، كما أشار مسعود ضاهر فى كتابه «هجرة الشوام» (عن دار الشروق)، إلا من خلال تبعيتها لهم وموقع أبنائها فى إطار الوساطة بينهم وبين الشعب المصرى وصولا إلى قبائل السودان.
هاجر الشوام إلى مصر بعد تعرضهم لأنواع مختلفة من الضغوط الاقتصادية والسياسية وغيرها فى ظل الحكم العثمانى وجموده الفكرى ومثلت القاهرة بالنسبة إليهم متنفسا للإبداع وتحقيقا لطموح الثروة والنفوذ. ونظرا لغياب الأوراق الشخصية الثبوتية من تذاكر هوية وسواها، كان جميع المهاجرين يعتبرون كالمصريين تماما من رعايا السلطنة العثمانية، بعضهم اندمج بالكامل مع السكان وبعضهم فضل الاحتفاظ بتمايزه حتى تاريخ تحديد الهوية الحقوقية المعترف بها بقانون الجنسية حسب معاهدة لوزان لعام 1924، والتى أعطت الحق لجميع رعايا السلطنة فى اختيار الجنسية التى يرغبون. وفى هذه الأثناء تشكلت معالم الأرستقراطية الشامية كجزء لا يتجزأ من الأرستقراطية المصرية، إلى جانب الشرائح الأخرى التى تشمل صحفيين وحرفيين وموظفين وجواسيس ومعدمين وخلافه، وبحكم إتقان معظمهم للغات الأجنبية إلى جانب العربية فقد سهل ذلك أن يلعبوا دور الوسيط فى جميع المجالات، دون الاكتفاء بهذا الدور دون شك إذ كان لهم تأثير بارز فيما يتعلق بتحديث المجتمع وبعض قطاعاته مثل العمل الصحفى والطباعة والنشر والمسرح إلى ما غير ذلك.
• • •
بتسى تقلا كانت تنتمى لهذا الواقع. ولدت فى بيروت لأب يعد من كبار تجار حلب، كما كان عمها، بولس كبابة، من كبار تجار مانشستر ولندن. تعلمت فى مدارس بيروت ولندن، وأتقنت العربية والفرنسية والإنجليزية والإيطالية والألمانية والتركية، وليس فى أسرة تقلا من كان يتقن مثل هذه اللغات مجتمعة. ثم انتقلت مع عائلتها إلى مدينة مارسيليا الفرنسية حيث تزوجت بشارة تقلا فى 15 يونيو 1889، وشاركته العمل بشكل متواصل داخل الأهرام، خاصة أنه كان قد تولى إدارة الجريدة بالكامل بعد وفاة أخيه الأكبر سليم وحققت بفضله شهرة وانتشارا واسعين. حياة السيدة بتسى تجعلنا نغوص فى زمن غير الزمن. كانت هناك سيدة فى نهاية القرن التاسع عشر على رأس واحدة من أهم الصحف المصرية، تزامنا مع مثيلاتها فى أمريكا وفرنسا. تحملنا حكايتها إلى أجواء نشر الشوام لفكرة القومية العربية العلمانية فى الأقطار العربية، وتشديد تيارات سياسية مصرية على فكرة وجود شعوب عربية وليس شعبا عربيا واحدا، حتى نصل إلى مرحلة عروبة مصر أيام جمال عبدالناصر وقرارات التأميم التى طالت الصحف ومن بينها الأهرام وجعلت الكثير من هؤلاء الشوام يغادرون خاصة بعض الأثرياء منهم، إيذانا ببدء عصر مختلف. الكرسى الذى جلست عليه لا يزال موجودا فى مبنى جريدة الأهرام، جلده الأسود الطبيعى به علامات سنوات عديدة مرت، لكنه أنيق ببساطة، له حضور خاص يميزه عن باقى أثاث المكتب.
التعليقات