«تغريبة» مجيد طوبيا الأخيرة - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 8:47 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«تغريبة» مجيد طوبيا الأخيرة

نشر فى : السبت 9 أبريل 2022 - 7:05 م | آخر تحديث : السبت 9 أبريل 2022 - 7:05 م

ــ 1 ــ
رحم الله الكاتب الكبير والقدير مجيد طوبيا (1938ــ2022) أحد أبرز وأهم أصوات جيل الستينيات ذلك الجيل الأشهر والأصخب فى أدبنا المعاصر، والذى رحل عن عالمنا صباح الخميس الماضى عن 84 عاما، بعد رحلة عامرة بالإبداع الرفيع؛ رواية وقصة ومقالا ودراسة، والكتابة النوعية الجميلة.

ــ 2 ــ
هنا، وقبل ما يقرب من خمسة أعوام تقريبا كتبت مقالين: أولهما بعنوان «كرموا مجيد طوبيا الذى نسيناه»، والثانى «جماليات السرد التراثى عند مجيد طوبيا»، حاولت فيهما أن أعبر ولو بأقل القليل عن امتنانى وتقديرى لإبداع كاتب كبير، قدم للأدب العربى نصوصا احتلت مكانها من بين الأهم فى أدبنا المعاصر.
وكنت أقصد تماما حرفية العنوان فى المقال الأول، ودلالته المباشرة؛ فمجيد طوبيا الذى قدَم للأدب العربى عددا من أهم الروايات فى تاريخها الحديث والمعاصر، وعددا من أميز المجموعات القصصية ذات الروح التجريبية، ونزوع جمالى مخصوص، عدا الكتب والدراسات والمقالات التى كتبها على مدى ما يزيد على نصف القرن، ظلَ لعقود وعقود منسيا وبعيدا عن الأضواء والشهرة، ولولا التفاتات فردية نبيلة من بعض أصدقائه الذين والوه بالرعاية الإنسانية الكاملة (على رأسهم الصديق الوفى المخلص فتحى سليمان)، ما تذكره أحد ولا اهتم بشأنه أحد، ولا طُبعت كتبه مرة أخرى، ولا ظهرت إلى النور فى طبعات جديدة عن عدد من دور النشر المصرية.

ــ 3 ــ
هذا المبدع القدير، الذى فيه من عناوين رواياته الكثير مما يجسد بعضا من طباعه وخصاله الإنسانية، فتننى برائعته المنسية «تغريبة بنى حتحوت»، وكانت تُنشر على حلقاتٍ كل يوم جمعة بملحق الأهرام الأدبى (لا أذكر بالدقة فى أى عام؛ لكننى أستطيع الإشارة إلى أنها كانت تنشر فى أواخر الثمانينيات أو أوائل التسعينيات بالتقريب، وغالبا ما كانت على قسمين أو جزأين، أحدهما إلى بلاد الجنوب، والثانى إلى بلاد الشمال. صدرت الرواية بعد ذلك فى طبعة أنيقة عن دار الشروق، وفى طبعةٍ تالية عن دار سعاد الصباح عام 1991).
كنت أنتظر حلقات «التغريبة» بفارغ الصبر ليلة الجمعة، أمكث بالساعات جوار بائعة الجرائد حتى تصل عربة (الأهرام) وتسلمها نسخ عدد الجمعة العامرة بالصفحات، وضمنها الملحق الثقافى الذى كانت تنشر الرواية على صفحاته الأولى.
لم أكن أستطيع صبرا حتى الوصول إلى المنزل، بجوار بائعة الجرائد أجلس على الرصيف وأفتح الصفحات وأشرع فى القراءة، ولا أكاد أعى بما حولى حتى تنتهى الحلقة بسردها وسحرها وعالمها المتخيل المبهج، وبتلك القدرة العارمة على التخييل والوصف، ورسم المشهد بكل تفاصيله التى تجعله ماثلا أمام عينيك، كأنك تشاهد فيلما سينمائيا مبهرا.
وعندما أعود إلى المنزل كنت أقص الصفحات الخاصة بحلقات الرواية وأجمعها فى أرشيف خاص ما زلت أحتفظ به حتى اليوم فوق سطوح بيتنا القديم بجوار بين السرايات والجامعة. كانت أياما رائعة؛ فيها ما نتذكره ونسعد حين نتذكره، ولله الأمر فى كل حين، وعلى كل حال!

ــ 4 ــ
يقول المرحوم يوسف الشارونى عن «تغريبة بنى حتحوت»: تقع فى أربعة أجزاء، استغرقت كتابتها ستة/ سبعة أعوام سبقها عام لتجميع مادتها العلمية، وتدور أحداثها فى نهاية القرن الثامن عشر، ثم القرن التاسع عشر، فى محاولة لاستنباط شكلٍ روائى جديد مستلهما التراث المصرى الحكائى فى سرد الأحداث، كما فى كتب التاريخ والسير الشعبية وألف ليلة وليلة: إذ يسير السرد فى خط مستمر دون التفات إلى الخلف مصورا أحوال مصر فى فترة التحول الحاسمة من أيام المماليك حتى قيام دولة محمد على، عبر ثلاثة أجيال من أسرة «حتحوت»، لكنها تتخطى الفترة التاريخية، وتصبح واقعا أدبيا لأبناء الحاضر يعيشونه باعتباره جزءا من ماضيهم. أما هيكل الرواية، فيعتمد على فكرة الرحلة المقترنة بالنبوءة.
وتتضح فى هذه الرواية التى عُدت من بين أهم 100 رواية عربية فى القرن العشرين، ذلك الهاجس المحموم بالبحث عن خصوصية جمالية للرواية العربية باستلهام الأشكال الموروثة والعمل على تطويرها، ومجيد طوبيا فى ذلك مثله مثل جمال الغيطانى الذى كان يشكل البحث عن جمالية سردية عربية فى فن الرواية شغله الشاغل وهمه المقيم.
ولم يكن غريبا أن تحظى الرواية بقراءات نوعية ممن اشتغلوا على بحث العناصر التراثية فى الرواية العربية، وبخاصة الناقد الدكتور مراد عبدالرحمن مبروك فى دراسته بالعنوان ذاته.

ــ 5 ــ
ومن هنا بدأت رحلتى مع مجيد طوبيا، والبحث عن أعماله؛ ومنها مجموعاته القصصية المهمة:
«فوستوك يصل إلى القمر» (1967)، و«خمس جرائد لم تقرأ» (1970)، و«الأيام التالية» (1972)، و«الوليف» (1978)، و«الحادثة التى جرت» (1987)، و«مؤامرات الحريم وحكايات أخرى» (1997)، و«23 قصة قصيرة» (2001).
أما الروايات التى قرأت عددا منها فى مجلدٍ قديم صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب؛ فكانت:
«دوائر عدم الإمكان» (1972)، و«الهؤلاء» (1973)، و«أبناء الصمت» (1974)، و«غرفة المصادفة الأرضية» (1978)، و«حنان» (1984)، و«عذراء الغروب» (1986)، و«تغريبة بنى حتحوت» (إلى بلاد الشمال 1987 وإلى بلاد الجنوب 1992)، (وإلى بلاد البحيرات وإلى بلاد سعد)، وصدرت الأجزاء الأربعة كاملة عن سلسلة (إبداعات التفرغ) بالمجلس الأعلى للثقافة فى 2005.
كذلك له قصتان للأطفال: «مغامرات عجيبة»، و«كشك الموسيقى» (1980)، ومسرحية هزلية: «بنك الضحك الدولى» (2001)، ودراسات بعنوان «غرائب الملوك ودسائس البنوك» (1976)، و«التاريخ العريق للحمير» (1996)، و«ديانا ومونيكا»، و«عصر القناديل» عن يحيى حقى وعصره (1999).

ــ 6 ــ
كان صاحب خيال إبداعى خصب، وكتابة جميلة وعميقة وسلسة، وكان ذا منحى تجريبى أصيل وواع يبحث عن الفرادة والخصوصية الجمالية فى تشكيله الروائى والقصصى على السواء.. رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، وخالص العزاء والمواساة لصديقه الوفى الأستاذ فتحى سليمان، ولكل محبيه ومقدِّرى أدبه وإبداعه الرفيع.