حرب غزة.. وتجاوز اضطرابات ما بعد الصدمات - قضايا فلسطينية - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 7:56 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حرب غزة.. وتجاوز اضطرابات ما بعد الصدمات

نشر فى : الثلاثاء 9 أبريل 2024 - 7:00 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 9 أبريل 2024 - 7:23 م

نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالًا للكاتب مصطفى حجازى، تناول فيه أشكال صمود أهالى غزة فى وجه الآلة الإسرائيلية التدميرية للتأكيد على حقهم فى الحياة، ودور المقاومة الفلسطينية الباسلة فى إحياء القضية الفلسطينية على الساحة الدولية، وكشف زيف إدعاءات الغرب بشأن حقوق الإنسان.. نعرض من المقال ما يلى:

ليس سهلًا الكتابة عن الحرب فى غزة. فما يجرى من عدوان ومجازر إبادة جماعية وبطولات مقاومة يخرج عن قدرة الكتابة العلمية توصيفًا ومصطلحات وتحليلات. ما جرى ويجرى فى غزة يحتاج إلى بيان آخر يوصف أهواله وإنجازاته وتحليل ظواهره، ما يتطلب فرقًا بحثية مختصة ومتآزرة تدرس هذه الحرب فى العمق والشمول والمستويات. وبالتالى ستقتصر هذه المقالة محدودة الحَجْم على التوقّف عند بعض مظاهر هذه الحرب.

بادئ ذى بدء لا بدّ من التأكيد على أنّ الحرب ليست ضد هذا الفريق أو ذاك من المقاومة، ولا هى ضد فلسطينيى غزة وحدها، وإنما نحن أمام مشروع كبير وطويل النفس للسيطرة على المشرق العربى وفصله عن مغربه، منذ غزو نابليون لمصر قبل قرنين من الزمان. كما أنه تكرس بوعد بلفور قبل ما يقرب من ثلاثة عقود من المحرقة النازيّة لليهود. إنه يسبق كثيرًا الادعاء بالحق بإقامة وطن آمن لليهود.

• • •

نتوقف بعجالة عند أمور ثلاثة يحتاج كل منها إلى أبحاث مستفيضة قائمة بذاتها: بطولات المقاومة؛ مخطط الإبادة والتطهير العرقى الذى تُمارسه إسرائيل وصمود الأهالى إزاء مجازر الإبادة ومِحن الاعتداءات.

يُجمِع المحللون العسكريون والسياسيون على أن الحرب فى غزة تشكل بكل المعايير أنموذجًا إبداعيًا فى فنون مقاوَمة جيش العدو الإسرائيلى. ويذهب بعضهم إلى القول إن هذه المقاومة وفنونها سوف تدرس فى المعاهد العسكرية نظرًا لفرادتها وفاعليتها. إنها إبداع حرب الأنفاق ومفاجأة العدو من الخَلف، ومن مسافاتٍ صفريّة أعد لها بتخطيط متقن وطويل النَّفس. أو ليس إبداعًا استخدام المظلات الشراعية بمثابة وسائل إنزال مظلى على ما يُسمى غلاف غزة وأَسر الضباط والجنود فى مَهاجعهم؟ إلا أن هذه النماذج الخارجة عن المألوف، ما كانت لتُنفذ بهذا الاستبسال والإقدام والفاعلية لولا الإيمان الراسخ بالقضية الكبرى والحق فى الوجود؛ ما يَجعل المستحيل مُمكنًا ويُفجر طاقاتِ العطاء الحيوية محطمًا كل العوائق وقاضيًا على كل المخاوف، وأولها الخوف من الموت. وإذا تم التغلب على الخوف من الموت إيمانًا بالقضية الكبرى لا يعود هناك من خوفٍ مُمكن من أى خطر، بل تسابق على الشهادة من أجل الظفر بالحق فى الوجود. ولن تتضح صدقية هذا الكلام إلا بعد أخْذ شهادات هؤلاء المُقاومين وكيف جابهوا آلة الحرب الإسرائيلية فائقة التقنية وتعامَلوا معها، من خلال الإيمان بالقضية الكبرى فى حق الوجود بكرامة وجدارة واستردادًا لإنسانيتهم.

نحن لسنا بصدد عدوانية محدودة تتصف بالوحشية، والوحوش منها براء، فهى لا تمارِس سلوكها العدوانى إلا فى حالات محددة: الصيد؛ والدفاع عن الصغار؛ والدّفاع عن المجال الحيوي؛ والتنافُس على التزاوُج. الإنسان فقط يتفنَّن فى العدوان ويتلذَّذ به فى حالات من التشفي. عدوانية الإنسان مفتوحة النهاية تمامًا كما ملائكيّته فى المقابل. الإنسان فقط يَشعر بالزهو والمتعة خلال مُمارسة حرب الإبادة، توكيدًا لقدراته وجبروته؛ من مثل ذلك الضابط الإسرائيلى الذى تباهى أمام وسائل الإعلام بأنه سيقدم عملية تفجير مبنى على ساكنيه هدية لابنته فى عيد ميلادها.

تقوم إسرائيل على حالة مرضية تتمثل بثنائية العصمة وما فوق البَشر، فى مقابل التهديد الوجودي. وكلما بَرَزَ التهديدُ، تصعدت المُمارساتُ العدوانية وعصمة ما فوق البشر لتعزيز الطمأنة الذاتية. وذلك من خلال التغول بالدم والقتل واستعراضه على شاشات التلفزة، من قَبيل التنكيل بالأطفال الخدج وترْك جثامينهم لاستعراض العنف وإظهار الجبروت، وبحيث تحول الجندى الإسرائيلى إلى مجرد آلة قتل. أوَلم يَصِف وزيرُ الدّفاع الإسرائيلى الفلسطينيين بأنهم حيوانات وليسوا بَشرًا، وبالتالى لا حرمة لحياتهم؛ كما لو أنّ إبادتهم ليست تعدّيًا على كائناتٍ بشريّة لها حرمتها؟ إذ لا يُمكن نفسيًّا استباحة دمّ الآخر إلّا بعد سحْب صفته الإنسانيّة منه وتحويله إلى أسطورة الشرّ التى تشكل إبادتها عملًا نبيلًا. وكذلك بعد تحويله إلى مكب للنفايات النفسيّة الذاتيّة ووهْم التطهير الذاتي. هذا مع العِلم أنّ الفلسطينى ساميٌّ مثله مثل اليهود الآتين من أربع رياح الأرض لإقامة دولة إسرائيل ذات الهويّة اليهوديّة الخالصة.

وهكذا تُدمر إسرائيل كل مقوّمات الحياة فى غزة، بدءًا بالعمران ومرورًا بتهديم المبانى على ساكنيها، وكذلك تدمير المستشفيات وقتل مرضاها وأطبّائها، واللّاجئين إليها، واستهداف سيّارات الإسعاف ومَن فيها، وضرب كل مقومات الحياة بقطع الماء والكهرباء والغذاء، وانتهاء بمؤسسات التعليم من مدارس وجامعات وأساتذتها، وحرب التجويع والتهجير القسريّ. هذا التهجير القسرى يحمل معنى الهزيمة الكيانية، ومن هنا التشبث بالأرض. فالموت أخف وطأة من ذل التهجير، وما يعنيه من عجز وهوان وفقدان السيطرة على المصير، ما يَجعل من العسير تحمل صورة الذات.

ما تعجز الكلمات عن وصفه، تنقله شاشات التلفزة بفصاحةِ الصورة وقدرتها التعبيريّة من ألوان كوارث الإبادة التى يتعرَّض لها أهالى غزّة: الساحات المليئة بأشلاء الجثث، الأكفان المتراصّة لأجسام الضحايا والمَدافن الجماعيّة، إخراج الناس من تحت أنقاض المبانى المدمَّرة بالغارات، مشهد بعض الأشخاص الناجين الذين فقدوا كلّ أفراد أسرهم دفعةً واحدة، تلك الطفلة التى أُخرجت من تحت الركام وهى معفّرة بالدماء والغبار والتى فقدت سائر أهلها، نظرات الأطفال المذهولين، وهُم فى حالة جمود، وكذلك العمليّات الجراحيّة وبتْر الأعضاء المُصابة من دون بنج.

• • •

إنّنا هنا فى ما يتجاوز ما يُسمّى اضْطرابات ما بعد الصدمات PTSD الشائعة، وبحاجة إلى توصيفاتٍ نفسيّة مُغايرة وفريدة. كما أنّ الدليل التشخيصى الإحصائى الخامس DSM5 الذى يوصِّف الاضْطرابات النفسيّة والعقليّة عاجزٌ بدَوره عن الإحاطة بهذه المِحن النفسيّة. المَبيت فى العراء تحت المطر على أنقاض المنازل، كلّها مشاهد فوق احتمال البشر، ولم يتبقّ للإنسان الذى ظلَّ على قَيد الحياة سوى ترداد عبارة «حسبنا الله ونعم الوكيل» مرّات ومرّات، وتسليم أمره إلى الرحمة الإلهيّة.

وأمام أهوال هذه الكوارث المتكرّرة يصمد مَن تبقّى على قَيد الحياة. وتتصدَّر المشهَدَ عمليّاتُ التآزر والتعاضُد والمُسارعة إلى النجدة والتشارُك فى كلّ شىء فى حالةٍ من الانصهار الجماعى، والمُسارعة إلى البذْل والعطاء لدرجة المُخاطرة بالحياة. المَخابز توزِّع مخزونَها من الطحين على الناس، ووكالات الأدوية تَفتح مخازنها للجمهور وتوزّعها على المستشفيات والمستوصفات التى ما زالت تعمل فى ظروف خارجة عن كلّ احتمال. إنّها الفاعليّة الجماعيّة التى تُطلق طاقات الحياة والبَذل والعطاء إلى أقصى مَداها متسلّحة بالإيمان وما يوفّره من استنفارٍ لقوى الحياة. إنّه الإيمان بالحقّ فى الأرض والوجود والعناية الإلهيّة. وكذلك التضحية بالحياة للمُسارعة إلى الحصول على حقَنِ بنجٍ مخصَّصة للحيوانات لاستخدامها فى جراحات المصابين بعد انقطاع وسائل التخدير.

إنّها صفحات من مِحن الإبادة، وما يقابلها من إطلاق طاقات الحياة والفاعلية الجماعية والإصرار على الحق فى الوجود، تستحق أن تُسجل وتوثق بتفاصيلها، وصولًا إلى بحثها واستخلاص دروسها غير المسبوقة. فالجماهير لا تُهزم إذا تسنّى لها القيادات التى تكون بمستوى التحدّيات. ذلك ما تُعلِّمنا إيّاه تجارب الشعوب التى تحقِّق ما يبدو مستحيلًا. فالمعركة لا تزال مفتوحةً، ليس فى غزّة وحدها، وإنّما فى العديد من الأقطار العربيّة، ومن الوهْم الاعتقاد بالخلاص الفردى وبأنّنا غير مَعنيّين، وغير مُستهدَفين.

فى المقابل تَبرز على الساحة العالميّة حركاتُ المؤازرة الشعبيّة وحشودها الهائلة لدعْم حقْ الفلسطينيّين فى الوجود، والاحتجاج على مشروع القتل والإبادة غير المسبوقة فى التاريخ الحديث.

نعم فَرضتِ المقاومةُ القضية الفلسطينية من جديد على الساحة العالمية، شعبيًا وجماهيريًا، وكشفت زيف ادعاءات الكيانات الغربية السياسية بالدفاع عن حقوق الإنسان. ولكن قَبل هذا كله أين هى الجماهير العربية وأين هو حراكها؟ وماذا أصابها؟ تساؤل كبير مطروح علينا جميعًا، وعلى مثقفينا فى الدرجة الأولى.

 

النص الأصلى

https://bit.ly/3U8Rl0w

قضايا فلسطينية قضايا فلسطينية
التعليقات