كورونا والبحث الاجتماعى والعولمة - نسمة البطريق - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 11:58 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

كورونا والبحث الاجتماعى والعولمة

نشر فى : السبت 9 مايو 2020 - 8:50 م | آخر تحديث : الأحد 10 مايو 2020 - 12:17 م

كشفت كورونا، هذه الجائحة الوبائية القاتلة، عجز الدول الكبرى المتقدمة فى العلوم والتكنولوجيا والصناعات الإلكترونية والعسكرية فى إعطاء تفسير علمى لأسباب هذا الوباء الذى ينتقل من قارة إلى أخرى دون أن يفرق بين دولة متقدمة وأخرى نامية من حيث درجة التخلف أو التقدم. كما كشفت عن هشاشة تلك النظم الرأسمالية المتقدمة، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا الغربية، خطورة ما آمنت به من فكر اجتماعى واقتصادى وسياسى واستعمارى لغزو الثقافات والمجتمعات بطرق مشروعة وغير مشروعة عن طريق حروب مسلحة وأخرى اقتصادية وثقافية وافتعال الأسباب العديدة لتحقيقها.

ولعل التسابق الذى حدث منذ الستينات فى صناعة الأقمار الصناعية وغزو الفضاء واكتشاف أهميتها فى جوانب عديدة، لإحكام السيطرة والاستعمار الفكرى والثقافى والاستخباراتى الذى أدى إلى العديد من الاختلالات الاجتماعية وضياع حق الشعوب والأفراد وحرمانها من التنمية الاجتماعية والاقتصادية.

كل ذلك أدى إلى العديد من القضايا والمشكلات والتحديات أمام دول العالم ليس فقط فى مجالات التفسير العلمى لأسباب هذا الوباء القاتل، ومضاعفة البحوث لإيجاد مصل يقى البشرية من الفناء، بل وفي إهمال لكل ما يتصل بالبيئة الطبيعية والاجتماعية، ومراعاة كل ما يحقق الأمن الاجتماعى والغذائى والاقتصادي بدلاً من تلك الأوضاع المتنافرة والاختلالات الاجتماعية التي أحدثتها نظم العولمة الاقتصادية والثقافية المفرطة فى الظلم الاجتماعى والاقتصادى والتعدى على القيم والثقافة، خاصة مجتمعات الدول النامية.

***

تلك القضايا وغيرها كشفت أمام المجتمع الإنسانى قضايا عديدة لعل أهمها:-

أولاً: كشفت كورونا أمام الرأى العام الدولى من خلال خطابها الإعلامى المرئى المسموع والمقروء ومضمون وسائل التواصل الاجتماعى، وخاصة خطاب أقوى دول العالم الغربى المتقدم، تلك النظرة المتعالية والمفرطة فى تحيزها الواضح للطبقة الرأسمالية والفكر الرأسمالى المتطرف والانتهازى، فى مقابل إهدار وإهمال حقوق أفراد الطبقات المهمشة والوسطى خاصة فيما يتصل بنظم التأمينات الاجتماعية والصحية والاقتصادية – لقد أظهر هذا الوباء القاتل مدى إهمال أكثر الدول المتقدمة فى أوروبا الغربية وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية كل ما يرتبط بنظم التأمينات الاجتماعية والصحية والاقتصادية.

لقد أحرج هذا الفيروس عدم الاهتمام بصناعة الدواء وتطوير البحث العلمى فى المجالات الصحية والطبية، بدلاً من التمادى فى صناعة الأسلحة والتطوير فيها وإنفاق الميزانيات المالية الضخمة للسيطرة وتدمير البشر والبيئة، دون وعى بخطورة ما يمكن أن تحدثه تلك الحروب الملوثة للبيئة الطبيعية والمؤدية إلى الدمار فى مقوماتها الطبيعية والبشرية، إلى جانب خطورة ما تحدثه من تكاثر الأوبئة والتلوث والمجاعات والتشرد وازدياد مأساة الإنسان وضياع آمال الأجيال الجديدة فى الدول النامية والفقيرة واستغلال ما تحتويه تلك الدول من ثروات طبيعية وبشرية.

ثانياً: كشفت كورونا عجز الدول الكبرى والمتقدمة فى العلوم والتكنولوجيا والصناعات فى الغرب الأوروبى وخاصة الولايات المتحدة هشاشة نظمها الرأسمالية المفرطة، وما آمنت به من فكر استعمارى لغزو الثقافات خاصة بعد الدخول فى عصر العولمة منذ الستينيات من القرن الماضى وبداية التنافس فى مجالات غزو الفضاء واستخدام الأقمار الصناعية فى الحروب النفسية الباردة، وما ساعد فيه تطور الصناعات الإلكترونية، خاصة صناعة الكمبيوتر وتكنولوجيا جمع المعلومات وأدوات إعادة إنتاجها ووسائل نشرها بالعديد من شبكات الاتصال والتواصل، من تسهيل وإنجاح آليات الاستعمار المسلح بأدوات الغزو الثقافى والفكرى التي أصبحت أدوات جديدة لتحقيق الأهداف الاستعمارية.

فالحروب الفكرية والثقافية عن طريق الثقافة الاستهلاكية وطرق إنتاج المعرفة ومضمونها المتنوع والموجهة من قبل شركات متعددة الجنسيات وتابعة فى أغلبها للدول الكبرى خاصة للولايات المتحدة الأمريكية، تُصوب إلى العقول الضعيفة فى بنيتها التعليمية والصحية والثقافية لتحقيق مزيد من الصراعات النفسية.

فأصحبت الثقافة الاستهلاكية هى المحرك للاقتصاد وتراكم الأموال والوجهة إلى الدول النامية بهدف إحداث مزيد من الصراعات النفسية والاجتماعية والتى قد تصل إلى حد الصراع المسلح الاقتصادى والسياسى.

وكلها أسلحة حديثة ناعمة تدمر العقل والفكر ولا تختلف فى تأثيرها عن أسلحة الدمار المسلح... فهى تنقل الثقافة بأفكار سطحية وبرامج ترفيهية هدفها الأساسى إبعاد الأفراد عن هويتهم والتفكير فى واقعهم... توجه أغلبها إلى الدول النامية وتُفرض من خلال إعلانات وبرامج تجارية عالية التكلفة للإغراء على الاستهلاك لمنتجات غربية، بالصورة والألوان المبدعة والكلمات الرنانة المغرضة بهدف فرض رموز ودلالات تبتعد عن الواقع الثقافى والاجتماعى.

كل ذلك أصبح أهم أدوات الاستعمار الثقافى والمروج إلى مزيد من السلوكيات غير المألوفة الداعية لاقتصاديات السوق والعولمة وتُفرض على الشعوب الضعيفة للإبتعاد عن القيم الإجتماعية داعية إلى مزيد من الصراعات الاجتماعية والطبيعية والسياسية والاقتصادية.

فأصبحت الثقافة تخضع لقوانين العرض والطلب وتضع المنفعة المادية فى المقام الأول على حساب منفعة الفرد والمجتمع.

ثالثاً: كشفت "كورونا" ضرورة الاهتمام بالبحث الاجتماعى خاصة أدواته التحليلية والتفسيرية والمستقبلية والتى لم تنل ما تستحقه من اهتمام الباحثين خاصة فى مراكز البحث العلمى والجامعات، خاصة في دول العالم النامى.

ولعل خطورتها أنها لا تولى الاهتمام البحثى بالتحليل والتفسير، إذ تكتفى بالعرض دون التحليل فى السياقات الإنسانية الاجتماعية والقيمية من منطلقاتها التاريخية بإعتبارها أساس التنبؤ والتقييم لخطورة ما يمكن أن يحدث فى المستقبل نتيجة لتلك الاختلالات الاجتماعية والإنسانية المتعددة، والتى ضاعفت من بؤس الإنسان وإفقار قدراته الخلاقة وتدعيم النظم الظالمة والمستبدة. وخطورة الاستهتار بالأبعاد الإنسانية وإهدار حقوق الأفراد من خلال ما يروجه الفكر الوصفى، خاصة فى مجالات العلوم الإنسانية، والتى تعزز الفكر القائم على التحليل الإحصائى الكمى تاركة تلك الدراسات التفسيرية والاستشرافية، والتى أكدت التجربة العملية فى الماضى على أهميتها فى تقديم فروض صالحة للتطبيق خاصة فى تلك الحالات الصعبة التي عاشها العالم خلال الحروب العالمية.. ويمكن تطبيقها فى الظروف المماثلة حيث تتراكم فيها الأسباب والقضايا المتشابكة الوبائية والاجتماعية والاقتصادية والحياتية.

لقد كشفت تلك الجائحة Covid 19 ضرورة الالتجاء لتلك الدراسات التحليلية فهى الأكثر قدرة على تقديم التفسيرات الملائمة للمشكلات العديدة، فهى دراسات تبتعد عن التحليل الوضعى الذى يهمل النشاط العقلى للباحث للتنقيب عن أنسب الفروض العلمية لتطبيقها أو اختيار فروض علمية جاهزة للتطبيق على كل القضايا والمشكلات المشابهة دون الأخذ فى الاعتبار الاختلافات فى البيئة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والتباين بين ظروف المجتمعات المختلفة.

***

هل كان يجب انتظار حدوث تلك الكارثة حتى تكتشف تلك الدول الغربية المتقدمة أهمية ما يحتاجه الفرد من عناية طبية وصحية واجتماعية واقتصادية وبيئية كأهم عنصر من عناصر الثروة البشرية، وتدرك أهمية البحث العلمى القائم على التحليل والتفسير لصياغة السياسات التى تحقق العدل الاجتماعى والاقتصادي، بدلاً من هذا الإهمال الذى كشفت عنه "كورونا" خاصة فى تلك المجتمعات الأكثر تقدماً وأحرجت نظمها أمام الرأى العام الدولى وأظهرت مدى إهمالها لحقوق الإنسان والعدل الاجتماعى وقيم المساواة والديمقراطية فى التعليم والصحة وسيادة القانون، وكلها قيم وفلسفات ومدارس فكرية كانت من أهم أسباب تقدمها الفكرى والاجتماعى والاقتصادى والسياسى.

هل كان يجب انتظار هذا الفيروس القاتل حتى تعى خطورة ما تسببه من حروب مدمرة بأسلحة قتالية وفكرية والتى لن تسبب غير الدمار والتشرد والإرهاب والفقر وانتشار الأوبئة التى ستفتك بالجميع.

نسمة البطريق دكتورة بكلية الإعلام جامعة القاهرة
التعليقات