انهيار المنهار - أمل أبو ستة - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 4:13 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

انهيار المنهار

نشر فى : الخميس 9 يونيو 2016 - 10:15 م | آخر تحديث : الخميس 9 يونيو 2016 - 10:15 م
لم أتفاجأ على الإطلاق من تسريب امتحانات الثانوية العامة فى مصر هذا العام. فأنا ليس لدى أدنى شك فى أن التسريب يحدث كل عام بل وعلى نطاق واسع. ما حدث هذا العام فقط هو حالة صارخة من الانهيار الكامل لنظام الثانوية العامة لا يفيد معه الإنكار. فلم يعد التسريب يحدث على استحياء وفى الخفاء أو فى صورة تداول بعض الأسئلة على شبكات التواصل الاجتماعى كما حدث العامين الماضيين، فالامتحانات ونماذج الإجابات متاحة أمام كل مستخدمى الإنترنت قبل بداية الامتحانات أو بعد دقائق من بدايتها، وهو ما يفقد نظام امتحانات الثانوية العامة القيمة الصورية الوحيدة التى تمنحه القدرة على الاستمرار.

لم نر جميعا صور الامتحانات على الإنترنت فحسب، بل رأينا أيضا الصور المتداولة لبعض لجان الثانوية العامة وقد تجمع الطلبة حول ورقة إجابة ينقلون منها جميعا فى مشهد سيريالى طبيعى أن يصيبنا جميعا بالحزن والخوف معا، ولكنه لم يستوقف أغلبنا لأننا جميعا على علم تام بأن الغش يحدث طوال الوقت داخل المدارس والجامعات، وأنه أصبح ممارسة مباحة ومقبولة من الجميع: الطالب والمدرس والمراقب والممتحن وولى الأمر. الجميع يباركونه بل ويضفون عليه صبغة أخلاقية حينما يسمونه «تعاونا» حتى يعفوا ضمائرهم من أى وخز أو وجع.
***
من خلال عملى كباحثة فى مجال التعليم سألت مجموعة من خريجى الثانوية العامة فى مصر عن الغش، فأقر 100% من عينة البحث أن الغش يحدث داخل اللجان وأنه يأخذ جميع الأشكال بدءا من النقل من الزملاء أو من ملازم، مرورا بالانتقال داخل قاعات الامتحانات وتبديل أوراق الإجابة مع الزملاء واستخدام التليفونات والإنترنت داخل اللجان للحصول على إجابات (ولقد تلقيت أنا شخصيا رسائل ومحاولات اتصال وقت امتحان اللغة الإنجليزية من سنتين للحصول على إجابات)، وصولا إلى تهديد المراقبين بالمطاوى وإلى الضرب خارج اللجان. وأوضح طلبة البحث أن النسبة الأكبر من المراقبين يسمحون بالغش وفى بعض الأحيان يشجعون عليه ويعرضونه على الطلبة دون سؤال منهم.
وعلى الرغم من اتفاق طلبة البحث بالإجماع على أن الغش عمل غير أخلاقى ويتنافى مع مبدأ العدل إلا أن معظمهم اعترف بممارسة الغش، وجاءت أسبابهم كاشفة عن منظومة منهارة ليست فى حاجة إلى ترميم بل إلى نسف وإعادة بناء. فالطلبة فقدوا الثقة تماما فى منظومة الثانوية العامة وفى نظام التعليم وفى أسلوب التقييم، فقدوا الثقة فى مدلول مجموع الثانوية العامة والذى فى نظرهم يعكس القدرة على الحفظ والغش، وهو ما يمكّن الطالب من الفوز بمقعد لا يستحقه فى التعليم العالى. والطلبة مدركون تمام الإدراك أن الغش نتيجة طبيعية لتعليم يهدف إلى التلقين وإلى اجتياز الامتحان وليس إلى التعلم فى حد ذاته، تعليم لا يخاطب الميول والقدرات ولا يتلاءم مع تغيرات المجتمع واحتياجاته، تعليم جامد يعتمد على تخزين المعلومات ولا ينمى القدرة على استخدامها وتحليلها وتقييمها وتطويرها. هو إذا تعليم بلا فائدة وبلا معنى وبلا هدف، اللهم إلا الترقى فى السلم الاجتماعى، وهو السبب الوحيد لبقائه حتى وقتنا هذا. هذه حقيقة يدركها الطالب وأهله ومدرسوه.
معظم طلبة البحث أوضحوا أن حصول على شهادة جامعية ضرورى لأسباب اجتماعية بحتة مثل الزواج والوجاهة وضمان معاملة حسنة من الدولة والمجتمع، أو لأسباب عملية حيث إن الشهادة الجامعية مازالت وثيقة مرور لوظائف كثيرة، إلا أنهم لا يرون أن التعليم الجامعى يسلحهم بالمهارات والقدرات التى يحتاجونها فى وظائفهم المستقبلية. إذا فالشهادة هى المهمة وليس ما ترمز إليه. وكثير منهم أشاروا إلى أن هذه هى قناعات أهاليهم أيضا ولكن الضرورة المجتمعية لا زالت تشكل ضغطا عليهم للقبول بالأمر الواقع.
نحن إذا أمام مجتمع فاقد الثقة تماما – وله كل الحق – فى منظومة تعليمية لا تسمن ولا تغنى من جوع. منظومة مهترئة تتظاهر بتقديم خدمة تعليمية لطلاب مصر فى حين أنها فى واقعها لا تعدو كونها تمثيلية سخيفة تستنزف الجهد والمال والوقت من الجميع.
***
تسريب الامتحانات على هذا النطاق الواسع هذا العام ما هو إلا حدث كاشف لعملية تعليمية هشة وامتحان يمكن اجتيازه بنموذج إجابات يعكس قولبة الطلاب وليس امتحانا يقيس القدرات والإبداعات. هو نظام هش لا يمكنه تأمين ورقة امتحان. نظام هش لا يفهم القدرات التكنولوجية التى يوفرها العصر للطلبة. نظام هش لا يعى التحديات ولا يعترف بالفشل الظاهر للعيان.
لم يتم إلغاء سوى امتحان الدين على الرغم من تسريب امتحانات أخرى وعلى الرغم من وجود تسجيل للدكتور رضا حجازى رئيس لجنة امتحانات الثانوية العامة قبل بدء الامتحانات بأيام ينفى نفيا قاطعا إمكانية تسريب الامتحانات ويسميها قضية أمن قومى. فهل سيحاسب أحد؟ هل سيتغير فى الأمر شىء؟ هل سيفطن أحد إلى أن ما نفعله قد عفا عليه الزمن وأنه لا مفر من التعامل مع التعليم كأولوية واعتبار تغيير وجهه مشروع قومى؟ أشك أن يحدث هذا فى القريب العاجل. بل ستستمر التمثيلية السخيفة فى العرض. وسيستمر الجميع فى لعب أدوارهم ممثلين ومشاهدين رغم علمنا جميعا بسخف التمثيلية وفشلها. وستستمر الثانوية العامة تفرز لنا طلبة حصلوا على مجاميع لا تعكس قدراتهم الأكاديمية وسيصبح هؤلاء أطباء ومهندسين ومدرسين وأكاديميين... ثم نتساءل لماذا ينهار مجتمعنا!
أمل أبو ستة حاصلة على دكتوراه فى أبحاث التعليم من جامعة لانكستر بانجلترا
التعليقات