عندما يبدأ العالم حصر خسائره البشرية والاقتصادية، بعد انقضاء الجائحة، ربما لا يجد الوقت الكافى لتأمل ما حدث، فالمتغيرات شبه الجراحية، قد تداهمه فى بنية النظام الدولى والأفكار والسياسات والأولويات بأسرع من أى توقع.
لكل عصر إيقاعه، وإيقاع هذا العصر السرعة.
بعد الحرب العالمية الثانية استغرقت التغييرات، التى لحقت ببنية النظام الدولى نحو عشر سنوات حتى تستوفى حقائقها وحساباتها وتوازناتها، غير أن معايير العصر الحالى، قد تختصر التفاعلات المتوقعة إلى عدد أقل من السنين.
ولكل عصر مرآته، والصحافة مرآة كل العصور الحديثة، غير أنها مأزومة ولا تدرى كيف يكون مستقبلها بأى مدى منظور.
من المتوقع أن يشهد عالم ما بعد «كورونا»، صداما بين نزعات متعارضة، الحرية والسلطوية، الشعبوية اليمينية، التى ترهن كل أزمة إلى اللاجئين والجاليات المهاجرة واليسارية الجديدة، التى تؤكد على أولوية التعليم والصحة والدولة القوية، التى ترعى مواطنيها دون أن تتغول على حرياتهم.
كل نزعة تجد ما يزكيها فى التجربة المريرة للجائحة.
يكفى مثالا واحدا لتبين قدر الخيارات المتضاربة، كما التوظيف المتناقض للتقنيات الحديثة.
فى الحرب على الوباء استخدمت تطبيقات على الهواتف المحمولة، لتعقب المصابين به وحصاره، كان ذلك شهادة بمدى قدرة التقنيات الحديثة على خدمة الصحة العامة وصيانة حياة البشر، غير أنها أشرت بالوقت نفسه لاحتمال زيادة منسوب السلطوية والتدخل فى الحياة الخاصة للمواطنين.
كل فكرة ونقيضها سوف تطرح نفسها بالضرورة على الصحافة، لإقناع أكبر عدد ممكن من المواطنين بصواب خياراتها.
الصحافة، المقروءة والمسموعة والمرئية والإلكترونية، ميدان المنازعات المتوقعة، غير أنها سوف تكون أحد عناوين التغيير وليست محض مرآة له.
بحقائق التاريخ الحديث، فإن كل ثورة اتصال أحدثت طفرة فى العمل الصحفى، مداه وفنونه ووسائله.
كما هى العادة تأتى التجربة أولا، ثم تلاحق نظريات الصحافة والإعلام التطورات فى وسائل الطباعة ومنصات البث.
لسنوات طويلة اكتسبت نظرية «الهرم المقلوب»، ما يشبه القداسة عند كتابة الخبر، إذ يبدأ بالأكثر أهمية ثم الأقل وهكذا.
كان ذلك نوعا من الملائمة الاضطرارية لنوع الطباعة السائدة، حتى يمكن الاختصار عند الضرورة، دون إخلال بما يستحق أن يطلع عليه القارئ.
مع التطور التقنى نشأت فنون أخرى فى التغطية المهنية مثل ما يطلق عليها «القصة الخبرية»، التى لا تلتزم بقاعدة «الهرم المقلوب».
بعد الجائحة، سوف تجد الصحافة نفسها مجددا فى قلب التساؤلات عن أزماتها ومستقبلها، وتبدأ صالات التحرير فى مناقشة ما قد طرأ من متغيرات على المهنة واحتياجات القراء والمشاهدين، حتى تحافظ على قدرتها فى الوصول إليهم.
إنها مهنة تتراكم فيها الخبرات، وتؤثر عليها التقنيات المستحدثة وحركة المواصلات والاتصالات واحتياجات المجتمعات المتغيرة بأكثر من أية مهنة أخرى.
إثر الحرب العالمية الثانية، طرأت تطورات جوهرية فى المدارس الصحفية، ونحت الصحافة الشعبية على ملاحقة العصر بالسرعة، فكل شىء يمضى لاهثا كالوجبات السريعة ومختصرا، فلا وقت طويل أمام قارئ متعجل، الخبر فى بضع كلمات والمقال لا يزيد على (250) كلمة.
تعددت المدارس بين محافظة وشعبية، لكنها جميعها التزمت بصياغات مهنية مختلفة بإيقاع العصر واحتياجاته.
ما الذى قد يطرأ على الصحافة بعد «كورونا»؟.. أو ما الذى يجذب القارئ أو المستمع أو المشاهد فى عصر جديد وقلق بعد التجربة المريعة؟
عند كل منعطف جوهرى، طرأت تغيرات على مهنة الصحافة بأوسع معانيها ومنصاتها.
عند بدء العصر التلفزيونى، تبدت قوة الصورة فى جذب العيون والأفئدة، ولم يكن ممكنا للصحافة المطبوعة أن تنافس على الصورة، كان موضوع التطوير الإجبارى فى التغطيات الصحفية البحث فيما وراء الصورة، أو ما الذى يجرى خلف الأبواب الموصدة.
كان السؤال الرئيسى فى صالات التحرير، ما الجديد الذى يمكن أن ننفرد به؟.. أو كيف تكون الصفحة الأولى مختلفة عما شاهده القارئ فى المساء من أخبار على شاشات التلفزيون؟
هكذا تأكدت أهمية «الصحافة فى العمق» أو «الاستقصائية»، والمواد التى تستحق القراءة على مهل.
وفى العصر الإلكترونى تعقدت المهمة أمام الصحافة المطبوعة، حتى بدا أن هناك من هو مستعد لنعيها، فالأخبار والآراء تتدفق بسرعة فائقة على المنصات الرقمية وشبكة التواصل الاجتماعى، غير أنها تفتقد غالبا الدقة اللازمة، التى تضمنها القواعد المهنية المتعارف عليها.
تتبدى هنا الأهمية القصوى للحرية والمهنية فى إكساب الصحافة المطبوعة «قبلة الحياة».
الحرية لا السلطوية، المهنية لا التعبوية.
هذان اختياران إجباريان للإبداع والابتكار والتنوع، وتلبية الاحتياجات المستجدة لجمهور القراء.
بنظرة على ما يجرى من تغطيات موسعة للجائحة، فإن الشاشات التلفزيونية تكاد أن تكون قد استولت على المشهد العالمى، بقدرتها على نقل الصورة الكاملة للمأساة الإنسانية لحظة بلحظة، كأنك ترقب بنفسك الشوارع المهجورة، ومشاهد الجثث أمام المستشفيات قبل نقلها إلى مثواها الأخير والمؤتمرات الصحفية المتتابعة لزعماء العالم، وقدرة كفاءة الدول والنظم فى إدارة الأزمة الصحية.
دخلت المنصات الرقمية وشبكة التواصل الاجتماعى حلبة المنافسة من زاوية تتبع الأخبار لحظة بلحظة، أو إبداء الآراء بشأن التطورات الجارية، كأنه مشاركة للرأى العام فى كل دولة بشأن ما يصدر من قرارات وتصرفات تخص صحته وحياته.
لم يكن ممكنا للصحافة المطبوعة مجاراة سرعة التغطيات فى نقل الصور أو حيوية تبادل الآراء، لكنه بإمكانها إذا أرادت أن تحتفظ لنفسها بأدوار على خرائط المستقبل أن تنافس وتتفوق فيما لا تقدر عليه الشاشات التلفزيونية والمنصات الإلكترونية.
بمقدورها أن تلبى احتياجات العصور فى العمق، فيما هو خلف الصور السريعة وومضات التواصل الاجتماعى.
أخطر ما حدث للصحافة المكتوبة فى بلد عريق مثل مصر قدر التدهور الخطير فى توزيعها الإجمالى، كل ما يطبع ويوزع من إصدارات صحفية أقل من ثلث ما كانت تطبعه وتوزعه صحيفة واحدة مثل «الأهرام» أو «أخبار اليوم»، مطلع سبعينيات القرن الماضى.
الأسوأ انخفاض تأثيرها فى صناعة الرأى العام، وتراجع صدقيتها ومهنيتها وتقوض المدارس الصحفية، كأن الصحف كلها تصدر من صالة تحرير واحدة بلا شخصية تحريرية تميزها.
أزمة الصحافة المصرية تبدت حقائقها قبل «كورونا»، كأنها تنازع على الحياة، لكنها سوف تجد نفسها بعد انقضاء الوباء أمام عالم جديد، يستحيل فيه تأجيل الإصلاح فى الرسالة الصحفية والإعلامية.
تحدى البقاء، يتطلب النهوض لمستوى الأزمات المقيمة والمستجدة بالحوار المفتوح والحرية والمهنية، والاستجابة لمتطلبات العصور المتغيرة.