خيانة التاريخ.. وغواية الجغرافيا! - طارق فريد زيدان - بوابة الشروق
الأحد 28 أبريل 2024 6:53 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

خيانة التاريخ.. وغواية الجغرافيا!

نشر فى : الخميس 10 أغسطس 2023 - 8:50 م | آخر تحديث : الخميس 10 أغسطس 2023 - 8:50 م

«الأرشيف استدعاء وليس تخزينا». هكذا لخّص دبلوماسى عربى عمل فى عواصم عربية وغربية، حوارنا فى السياسة والاجتماع والاقتصاد. طبعا لم يخلُ الحوار من السؤال اللازمة فى كل حديث عن دور الصحافة فى نشر المعرفة. غير أن جرس الجملة ظلّ عالقا فى ذهنى. تلخيصه الذكى فتح الباب واسعا أمام رصد العلاقة بين التاريخ والجغرافيا باعتبارها الأرشيف الأساس فى الحياة.
ولأن حوارنا أخذ يمتد إلى موضوعات تدور كلها حول ثنائية التاريخ والجغرافيا، تذكرت لوهلة أننا لم نأتِ على ذكر كلمة جيوبوليتيك. كأننا كنا نبحث عن معنى أكثر عمقا من سطحية بعض التحليلات المتداولة فى عالم السوشيال ميديا.
كيف لنا أن نفهم هذه العلاقة المُركبة؟
لعل أنسنة العلاقة تُفسّر شيئا من الأخطاء المتكررة من قبل السياسيين البشر الذين يعتقدون أن التاريخ يُمكن استمالته بعيدا عن الجغرافيا. المصيبة أن بعضهم يعتقد أن التاريخ يمكن صناعته بشكل آلى، بينما يُردّد المفكر كارل ماركس أن الناس يصنعون تاريخهم بيدهم ولكنهم لا يصنعونه على هواهم، فالظروف ليسوا هم من يختارونها بل هى عبارة عن تراكم يمتد من الماضى إلى الحاضر.
يعنى ذلك أن التاريخ كائنٌ حى يتنفس ويتحرك. التاريخ متزوج من الجغرافيا. وقد اختار الزوجان منذ إتمام مراسم الزفاف بينهما أن يجعلا كوكب الأرض بيتا لهما. عاشا فى تبات ونبات لا يخلوان من مشاكل وخيانات زوجية لطالما كان يرتكبها التاريخ، صاحب الكاريزما الخلاّقة واللاهث خلف الغواية. يُمارس الخيانة مع البشر باستمرار. هؤلاء البشر يقدمون أجزل الهدايا معتقدين أن التاريخ سيترك خليلته ويتزوج منهم. بينما تقف الجغرافيا، الحرم المصون، مجسدة أسمى معانى الصبر ومتمسكة بالمقولة التقليدية «بكرة رح يرجع لعندى عالبيت».
هى محقة فى اعتقادها هذا. والسذاجة ليست من طبعها وهى من تحداها الزمن من دون نجاح. هى تعرف أنها مسألة وقت. سرعان ما يمل التاريخ من نزواته فيخرج من علاقته المحرمة بكل سلاسة.
فى لحظات عديدة وقف المؤرخون عاجزين عن وصف الجغرافيا (الزوجة). حتى أطلق عليها المؤرخ الشهير هيغل وصف «مكر التاريخ»، على اعتبار أن للتاريخ طبيعة جدلية تحكمه.
بالرغم من كل ذلك، يُضرب للجغرافيا تعظيم سلام. هى تتحمل خيانات التاريخ لها. تصبر وتعمل بصمت. الحقيقة هى أن الجغرافيا شخصية قديرة. تتميز بالكبرياء ولا تنجر إلى الموبقات. هى واضحة، فاضحة، كاشفة، لا يهزها ريح. صلفة من دون بجاحة. فصيحة من دون كلام. عاطفية من دون تزلف. والتاريخ يعرف ذلك ولو أنكره البشر. من أجل ذلك تربعت الجغرافيا سيدة حرة مستقلة على باقى صنوف المعرفة. فهى قمة الفكر الاستراتيجى وذروة الدراية والإدارة.
فى العالم العربى، لم أجد اهتماما بهذه العلاقة كما وجدته عند مؤرخى مصر. على رأسهم العبقرى والجغرافى المصرى جمال حمدان الذى وضع أحد أهم المراجع فى هذا المجال. فى موسوعته الباذخة عن شخصية مصر وعبقرية المكان، يصف العلاقة وكأنه طبيب نفسى يلجأ إليه الأزواج لمناقشة علاقاتهم الشخصية والاجتماعية ومشاركة أسرارهم العميقة. فصفص جمال حمدان هواجس التاريخ الصاخبة وفك شيفرة صمت الجغرافيا.. فاستنطق العلاقة بين الزوجين.
لكن هذه الأنسنة تدفعنا إلى السؤال الفلسفى الجدلى: هل التاريخ يُعيد نفسه؟ مرة أخرى أجد نفسى لا أستطيع حسم المسألة. التاريخ جدلى وحركى بطبعه والجغرافيا ثابتة ومتناقضة بشخصيتها. التضاريس تصنع شخصيات بحرية ونهرية وجبلية وغيرها. مما يزيد من عنصر الغواية عند البشر. أليس هناك من يقول إنه كلما اقترب الناس من الماء، نهرا أو نبعا أو بحرا أو شلالا، كانوا أطرى وأسلس؛ وكلما ابتعدوا نحو الجبال الصخرية الجرداء ازدادوا بأسا وبطشا وقوة؟
لن ينتهى النقاش بين التاريخ والجغرافيا ولا عن سر العلاقة التى تحكمهما. يضع ابن خلدون فى مقدمته الشهيرة التاريخ فى مقام جليل. ينعته بأجمل الأوصاف، فهو الفن الذى «تتداوله الأمم والأجيال وتُشد إليه الركاب والرحال وتسمو إلى معرفته السوقة والأغفال وتتنافس فيه الملوك والأقيال ويتساوى فى فهمه العلماء والجهال». ويذهب كثيرون من جماعة «الحتمية الجغرافية» إلى التأكيد على ترابط العلاقة بين طبائع البشر والبيئة الجغرافية التى نشأوا فيها.
قررت أن أستعين بـ«صديقين». يقول الأول وهو رئيس الوزراء البريطانى ونستون تشرشل الحاصل على جائزة نوبل للأدب عن مؤلفه التاريخى «يُعيد التاريخ نفسه لأن الحمقى لم يفهموه جيدا». ويقول الثانى وهو رئيس فرنسا شارل ديجول مخاطبا الكاتب العربى محمد حسنين هيكل انظر يا مسيو هيكل (إلى الخريطة أمامهما). هذه مساحة العالم العربى وهذه مساحة إسرائيل، الهزيمة التى لحقت بكم مؤقتة بطبيعة الجغرافيا والحقائق السكانية فوقه، ومن ينظر عندكم إلى الخريطة لا بد أن يستشعر ثقة فى مسار المستقبل.
هو جدل مفتوح والمهم ألا يقع الإنسان فى فخ التفسيرات الضيّقة. عندها تتحول العلاقة بين التاريخ والجغرافيا إلى أرشيف للتخزين لا للاستدعاء.

طارق فريد زيدان كاتب سعودي
التعليقات