قبلة الاقتصاد العالمى إلى اليسار قليلا - محمد الهوارى - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 10:27 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قبلة الاقتصاد العالمى إلى اليسار قليلا

نشر فى : الثلاثاء 10 سبتمبر 2019 - 6:10 م | آخر تحديث : الثلاثاء 10 سبتمبر 2019 - 6:10 م

شهد العالم منذ ثمانينيات القرن الماضى انطلاقة لما يسمى بالفكر النيو ليبرالى مع بزوغ نجم اقتصاديين مثل ميلتون فريدمان الحائز على جائزة نوبل فى الاقتصاد، وآلان جرينسبان المحافظ التاريخى للبنك الفيدرالى الأمريكى، ووصول سياسيين أقوياء مقتنعين بهذا الفكر لحكم دول كبرى مثل رونالد ريجان ومارجريت تاتشر.
والفكر النيوليبرالى يعتمد باختصار على تحرير التجارة وخلق بيئة سهلة للأعمال بتدخلات حكومية قليلة. وتعرف باسم Laissez fair Economics بشعارها الشهير «اتركه يعمل، اتركه يمر». ومع مجىء ريجان للحكم طور الفكرة النيوليبرالية لتصبح قائمة على ما يسمى باقتصاد جانب العرض supply side economics. وتقوم فكرة اقتصاد جانب العرض على أن أهم شىء للحصول على رخاء اقتصادى هو توفير بيئة مشجعة للشركات خاصة الكبيرة منها حيث إنها حين تحقق المكسب فستقوم بإعادة ضخ هذه المكاسب مرة أخرى فى الاقتصاد مما سيسبب انتعاشة ومضاعفة حركة الأموال فيه وستقوم هذه الشركات بدور القاطرة للنشاط الاقتصادى. ولهذه النظرية اسم آخر يكاد يكون هزليا وهو Trickle down economics أو اقتصاد التقطير لأسفل وهو معبر أكثر حيث تستفيد الشريحة العليا بأغلب فوائد هذا النظام وتقل الفوائد بطريقة متسارعة كلما ذهبنا إلى الشريحة المجتمعية الأدنى.
وزامن تنفيذ هذه النظرية انتعاش فى الاقتصاد الأمريكى وصارت «اقتصاد ريجان» Reaganomics؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ قبلة ومذهبا خاصة للحزب الجمهورى. و لم يقتصر انتشار هذه النظرية على الولايات المتحدة فقط، حيث ساهم نجاحها فى الثمانينيات لتصبح دليل إدارة أغلب المؤسسات المالية العالمية والشركات
والبنوك الكبرى بل حكومات الدول الكبرى مع تفاوت فى طرق ودرجة التنفيذ.
المشكلة أنه مع تفاقم مكاسب الشركات الكبرى أصبحت لا تستطيع ولا تريد إعادة ضخ كل أرباحها فى الاقتصاد مما تسبب فى تضخم ثرواتها وحملة أسهمها بطريقة مبالغ فيها. تسبب عن ذلك خلق فجوة فى الثروات ظلت تتفاقم
وتكبر منذ حوالى أربعين سنة مما أدى لوجود تذمر شعبى عالمى متزايد حتى فى دول متقدمة. حاولت الشركات والحكومات معالجة ذلك بشتى الطرق منها خلق ما يسمى «برامج المسئولية المجتمعية» على سبيل المثال التى وجدت فى الأساس لتجميل وجه هذه الشركات بصرف ميزانيات صغيرة من أرباحها السنوية على برامج مجتمعية وصرف أرقام تكاد تكون مماثلة للدعاية لهذه البرامج.
جاء الاختبار الكبير لهذه النظرية منذ حوالى عشرة أعوام حيث لم ير العالم منذ الكساد الاقتصادى فى ثلاثينيات القرن الماضى فترة أصعب من الأزمة المالية العالمية فى 2008. الحكومة الأمريكية تحت بوش الابن ثم أوباما ثم ترامب بما فيها البنك الفيدرالى اتخذت خطوات جدية للمرور من الأزمة ومحاولة تلافى الوقوع فى أزمة مماثلة. المعضلة أن تصميم الاقتصاد العالمى والأمريكى بالأخص يعطى أفضلية للشركات الكبيرة وأصحاب رءوس الأموال. إلى درجة أن مصير الاقتصاد أصبح مربوطا بمصير هذه المؤسسات بدلا من ترك مصير الشركات لقوى السوق، أصبح لدينا شركات أكبر من أن تفشل Too Big to Fail. ويستلزم ذلك إنقاذ هذه الشركات عند تعرض الاقتصاد للصدمات مما يخلق معضلة أخرى وهى «العاقبة الأخلاقية» Moral Hazard وهى أن أموال دافعى الضرائب تتدخل لإنقاذ شركات خاصة بدلا من تركها تتحمل عواقب إدارتها
والمخاطر التى اتخذتها. نتج عن ذلك عوار كبير فى الأداء الاقتصادى العالمى وبالأخص فى الولايات المتحدة وهو أن السياسات أصبحت تزيد من ثروات الأثرياء على حساب عامة الشعب مما جعل فجوة الثروة تصل لحجم مرعب.
يوم 30 أغسطس من هذا العام نشرت الوول ستريت جورنال الأمريكية تحقيقا لترى وضع ثروات الشرائح المختلفة فى الولايات المتحدة منذ الأزمة المالية العالمية فى 2008 وحتى اليوم. نشر التحقيق تحت عنوان «الانطلاقة التاريخية فى أسعار الأصول تمر بدون فوائد لنصف العائلات الأمريكية». وجدت الدراسة أن نصف العائلات الأمريكية بالكاد استعادت حجم ثروتها فى 2008 مؤخرا. وما زال حجم ثروتهم أقل بـ32% من حجمها فى 2003 أى منذ 16 عاما بالاخذ فى الاعتبار التضخم.
ونفس التقرير وجد أن شريحة الـ1% الأغنى فى أمريكا تضخمت ثرواتهم بأكثر من الضعف منذ 2003. إذن فالعالم مؤشراته الاقتصادية منذ الأزمة العالمية على أقل تقدير مقبولة فقد تلافى حدوث أزمات كبرى ولكن الشعوب ليست أفضل حالا، فالفقير يزداد فقرا والفجوة تزداد.
نتيجة ذلك واضحة فى الساحة السياسة الأمريكية والأوروبية. إذا نظرنا على الميول السياسية الجديدة حتى فى أعتى الدول المدافعة عن اقتصاد السوق مثل أمريكا وألمانيا، سنرى موجة يسارية قادمة بقوة. قد لا تصل للحكم هذا العام أو العام المقبل ولكنها بالتأكيد فى طريقها للوصول للحكم وفى هذه الأثناء سوف تؤثر على سياسات دولها. مثلا، لأول مرة منذ عقود تطرح فى أمريكا
وألمانيا فى نفس الوقت وبقوة فكرة ضريبة الثروة. مثال آخر من الانتخابات الرئاسية الأمريكية حيث الحزب الديمقراطى أغلب مرشحيه يطرحون أفكارا أقرب لليسار وكلهم يقدمون أفكارا لإعادة توزيع الثروة. الجيل القادم من السياسيين الذين فى مرحلة الانتشار حاليا يرون مشكلة عدالة توزيع الثروة كمشكلة رئيسية يبنون عليها توجههم. ظنى أنه بعد انتهاء العالم من هذه الموجة الشعبوية اليمينية الحالية، سترى الشعوب أن مشاكلهم لم تُحل وغالبا ستتفاقم وسيبحثون وقتها عن شعبوية جديدة تتحدث لمشاكلهم من خلفية مختلفة وهنا سنرى ميلا يساريا واضحا فى نتائج الانتخابات.
أما عن ماذا يعنى لنا تحول قبلة العالم إلى اليسار قليلا أو كثيرا؟ نتوقع مع هذا التغيير تحولا للخريطة الاستثمارية العالمية وخريطة توزيع الثروات وبرامج المعونة والمساعدة للدول الناشئة. أفضل استعداد لمثل هذا التغيير هو وضع سياسات جاذبة للاستثمار تشجع المستثمر المحلى قبل الأجنبى كقاطرة لنمو اقتصادى مستدام. رءوس الأموال أيا كان توجهها ستظل تبحث عن أفضل عائد وأقل مخاطرة وإذا استطعنا تقديم هذه التوليفة لهم فسنظل قبلة لرءوس الأموال العالمية.

محمد الهوارى مدير صناديق استثمار دولية
التعليقات