بين ثقافتين - إكرام لمعي - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 2:33 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بين ثقافتين

نشر فى : الجمعة 10 ديسمبر 2021 - 10:15 م | آخر تحديث : الجمعة 10 ديسمبر 2021 - 10:15 م

 

من الأمور اللافتة للنظر والتى تستحق أن نُركز عليها ونحللها ــ عزيزى القارئ ــ هى المتغيرات العالمية الضخمة والمتلاحقة التى يتسم بها عصرنا، والتى من أبرز ملامحها ثورة المعلومات والتكنولوجيا وتدفقها المستمر بلا توقف، هذا بالتوازى مع سطوة الميديا؛ الإذاعات والتليفزيون والإنترنت والفضائيات.. إلخ، أما من الناحية الأكاديمية فقد حدثت أيضًا طفرة فى الفلسفة والعلوم تُركز بشدة على المنطق العلمى والمذاهب العقلانية البحتة، وذلك فى ضوء تبنى فلسفة الحداثة وما بعد الحداثة بل وما بعدهما من نظريات علمية متطورة ومتعددة ومتنوعة.. إلخ. لكن هذا الطرح الذى يتشدق به العلماء ومتعاطو الثقافة والمتحضرون على التلفزيون وكل وسائط الميديا، يَعتبره البعض حديثًا سطحيًا مبتذلًا بالمقارنة مع التفكير الأصولى أو الماضوى، وذلك فى الوقت الذى فيه وبسبب الطفرة العلمية والتكنولوجية الحديثة يعيش العالم والبشرية جمعاء بكل تنوعاتها وثقافاتها داخل قرية عالمية محدودة تتصاعد فيها حتمية المصير الإنسانى المشترك، وبلا شك أن هذا الأمر يحتاج إلى بشر لهم قدرة ذاتية للفعل على الأرض ولهم تاريخ فكرى معرفى ورؤية مستقبلية مشتركة.
من هنا كان لابد وأن يدور الصراع التاريخى والأبدى بين العلماء والفلاسفة من ناحية، وبين أصحاب التفكير الدينى الأصولى من الناحية الأخرى، وذلك من خلال الميديا؛ الصحافة والتليفزيون والفضائيات، وكذلك فى الجامعات الحكومية والخاصة ومقار الأحزاب باتجاهاتها المختلفة والمتنوعة.. إلخ
من هنا بدأ الحديث عن طُرق ومحاولات العلاج للصراع المحتدم بين ثقافة الصورة والتى تتمثل فى التليفزيون والدش والأفلام والطرب واليوتيوب والمهرجانات السينمائية.. إلخ من ناحية، وبين الثقافة الدينية الأصولية وأسطورتها المثالية وقداستها وعراقتها من الناحية الأخرى، وهذا لا يتم إلا من خلال طريق واحد هو التركيز على التفكير العلمى والمنطق الفلسفى والإنسانى، وهنا علينا أن نُدرك أن أصحاب الثقافة العلمية الإلكترونية من ناحية وأصحاب الثقافة الأصولية من الناحية الأخرى يُقدم كُل منهما مشروعًا لإعادة تشكيل المرجعية الجماعية وأساليب فكرها المستقبلى، بل وأيضًا السلوك والمواقف والنظرة إلى الذات والكون وذلك وصولًا إلى توحيد المنتمين إليهما فى فئة اجتماعية خاصة بكل مشروع منهما وكيان ينتمون إليه. فالثقافة الإلكترونية الحديثة التى تجتاح الأجيال ليست مجرد متعة وتسلية كما يظن البعض، كما أن الثقافة الأصولية ليست مجرد دعوة والتزام. فالطرفان ينزعان إلى عملية قولبة أو تنميط للإنسان، والتنميط بالطبع ضد وعكس التفكير العلمى، وهكذا يجد أى شخص يفكر بطريقة علمية نفَسه فى مأزق أو فى حصار بين ثقافتين: ثقافة الصورة الحديثة وثقافة الأصولية، بين حضارة إنسانية واحدة تذوب فيها الهويات بشكل عام وبين تأكيد الهوية العريقة بشكل خاص لكل جماعة إنسانية. والملاحظ أن الاتجاهين يستخدمان منهج التفكير العلمى وذلك فى عملية التنميط، وهذه كارثة، فالتنميط يعنى ببساطة وضع الإنسان أو الفكر المطلوب أو الاتجاه فى نمط معين يحدده ويوجهه، ذلك الإنسان الذى بحسب خلقه وتكوينه وتفكيره يرفض بطبيعته أساسًا وضعه فى إطار محدد أو نمط بعينه.
•••
سوف أشرح ــ عزيزى القارئ ــ فى نقاط سريعة التغيير والتبديل الذى حدث ويحدث لثقافتنا وكيف تبدلت. فقد لوحظ فى السنين الأخيرة سيادة ثقافة (القنص والصيد) على حساب ثقافة الجهد، والتى عاشها ومارسها آباؤنا وأجدادنا وأورثوها لأبنائهم وأحفادهم قبل ثورة يوليو 1952م. وأدعوك ــ عزيزى القارئ ــ أن تتأمل الإعلانات التى تجتاحنا ونحن فى بيوتنا. تأمل معى مشاهد أسعار العملات والذهب.. إلخ. فى استعراض البورصة والذى تشاهد فيه زوجتك وأولادك أسعار العملات والمؤشرات صعودًا وهبوطًا، والسؤال: لماذا التركيز على سوق المال، مع العلم أن المتعاملين والخبراء فى هذه الأسواق لهم شاشاتهم الدائمة التى توافيهم بتحركات السوق المالية والكونية فى كل بلاد العالم، والمشاهد بل قل أكثر من ٩٥% من المشاهدين العاديين لا صلة لهم بهذا الأمر، إنهم يُحثون المُشاهد على أن يدخل هذا الصراع، وإذا لم يَدخل يُصبح مهمشًا، وهنا تأتى ثقافة القنص، أو تحويل الناس إلى قناصين أو منتهزين للفرص، تجربة الحظ فى الدخول إلى حَلبة رأس المال الطيار؛ اقتنص، اربح، واجرِ. إنه إحلال ما يسمى الحس المالى محل التفكير العلمى، وكل الجهد المطلوب هدفه هو كسب أكبر قدر من المال، إنه التحول من الجهد الإنتاجى إلى براعة اقتناص فرص الربح، وهنا يتزاحم القناصون فى غابة لتحقيق أكبر ربح بأقل جهد. والغائب الأكبر هنا هو ثقافة الجهد طويل النفس، وذلك بالتفكير العلمى والإعداد والتدريب والإنتاج.. إلخ، وبالطبع فى مثل هذه الأجواء تغيب قضايا المجتمع والتربية والتنشئة بل والمصير، وذلك لأنه لا مكان لها فهذه القضايا تتطلب وقتًا طويلًا لطرحها والتفكير بشأنها، وهكذا ــ عزيزى القارئ ــ تتلاقى ثقافة الصفقة والقنص فى الربح اللحظى، وليذهب الجهد الإنسانى والتفكير العلمى إلى الجحيم، ليس ذلك فقط بل ربما تقول ــ عزيزى القارئ ــ إن ثقافة البورصة لا تجذب معظم البشر لأن الأغلبية من الموظفين والفقراء بشكل عام.
لذلك تجد بمنتهى السهولة البديل للبورصة، فأغلبية الشعب المصرى يتابعون نجوم الدين ونجوم الرياضة، من هنا تحول الدين إلى سلعة وكذلك الرياضة، وأصبح هذا التسليع ظاهرة شبه كونية من خلال الشاشات. لقد أضافت الشاشات المدى الكونى على ظاهرة النجومية أو تسليع الدين والرياضة، فنجوم مصر اليوم هم مجدى قفشة وشيكابالا.. إلخ ومعهم الشيخ/ معز مسعود والشيخ/ عبدالله رشدى بملابسهم الأفرنكية ورابطة العنق المستوردة والسيارة الفارهة، وهكذا لا يبدو على الشاشات سوى سلوكيات النجومية، أما الجهد والعناء والتدريب والممارسة والانضباط لا يتوقف عندها بشر سوى أقلية الأقلية. لقد أصبح تحويل الشاب المهمش فى مصر والعالم الثالث إلى نجم رياضى أو نجم دينى هو باب الخلاص له، بل هو الأمل السحرى الذى ينتظره، وهكذا توارت نجومية الجهد والعلم والإنتاج وتبقى فى مكانها المتواضع.
•••
بجوار نجومية الفن ونجومية الرياضة تجد نجومية الدين كما أسلفنا وهذه النجومية ليست غريبة على ثقافة الصورة، ولتتأمل وتدرس معى بعمق ــ عزيزى القارئ ــ نجوم المساجد والكنائس الأكثر شهرة، سوف تكتشف أنهم الأقل دائمًا فى دراسة واستيعاب وإتقان التفكير الفقهى واللاهوتى، لكنهم بلا شك لديهم قدرة فائقة فى التعامل مع الصورة ومغازلة الجماهير السطحية بالعواطف الدينية والروحانيات التى تُغَّيبهم عن الواقع والتى تُريح البشر إلى حين، وذلك فى الوقت الذى يصبح فيه الدعاة من أصحاب الثروات الفلكية.

إكرام لمعي  أستاذ مقارنة الأديان
التعليقات