أدوار جديدة لدولتى الجوار - جميل مطر - بوابة الشروق
الجمعة 13 ديسمبر 2024 4:01 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أدوار جديدة لدولتى الجوار

نشر فى : الخميس 12 يناير 2012 - 8:00 ص | آخر تحديث : الخميس 12 يناير 2012 - 8:00 ص

جربت بريطانيا وفرنسا فى نهاية الحرب العالمية الأولى، تقسيم العالم العربى بينهما، كحق لهما باعتبارهما من ورثة الامبراطورية العثمانية وأفلحتا. ظهرت دول لم تكن موجودة إلا ككيانات جغرافية أو إدارية، خضع بعضها لاستعمار أوروبى استمر حتى نهاية الحرب العالمية الثانية حين نشأت جامعة الدول العربية.

 

عندئذ استقرت شرعية هذه الكيانات السياسية الجديدة كدول مستقلة أو شبه مستقلة وأعضاء فى منظمة إقليمية، واعترفت بها الأمم المتحدة.هكذا يمكننا القول بأن تقسيم العرب الذى جرى فى اعقاب أو بسبب عمليات عسكرية وصراعات امبراطورية عنيفة كان الخطوة الأولى على الطريق لقيام نظام إقليمى عربى، وكان من شروط قيامه القضاء على ما تبقى من هيمنة عثمانية وقبول تركيا الالتزام بأن تصبح دولة تابعة للغرب سياسة واقتصادا ومنظومة قيم، وفى الوقت نفسه قبولها ألا تلعب دور دولة الجوار للاقليم العربى الناشئ إلا وفق ما تكلف به من مهام، وهو ما حدث مرات قليلة وبخاصة خلال مرحلة إقامة الأحلاف العسكرية كالحلف المركزى وحلف بغداد وتدخلها بالتهديد بالزحف العسكرى فى عام 1957 لوقف تمدد نفوذ مصر محمولا على الموجة الأولى من موجات المد القومى العربى.

 

 

  أما إيران، كدولة جوار ثانية، فقد سبقت تركيا فى الخضوع لنفوذ الغرب وبخاصة بريطانيا ثم الولايات المتحدة ولعبت مع باكستان لفترة غير قصيرة دور الأجنحة الشرقية فى نظام الأحلاف العسكرية الغربية التى نشأت نظريا بحجة الاحاطة من الجنوب بالاتحاد السوفييتى، وفى الواقع كان هدفها الاحاطة بالنظام العربى، وبخاصة فى مراحل المد القومى. من ناحية أخرى جرى تكليف إيران بالتدخل فى تفاعلات النظام العربى، أى فى شبكة علاقات أقطاره ببعضها البعض، للمساعدة فى إقامة هلال إسلامى يضم إلى جانب إيران دول الخليج ويمتد غربا لضم تونس والمغرب مرورا بالأردن. مرة أخرى، وبعد فشل تجربة الأحلاف، احتاج الغرب إلى تركيا وإيران معا، ليتكاملا فى أداء دور إقليمى محدد يخدم أهداف الغرب ويحمى مصالحه.

 

 

•••

 

لم يحدث، حسب ما نذكر وما صدر من دراسات، أن استخدم الغرب المتدخل دائما، وإيران وتركيا المتداخلتان حسب الطلب، أى بين الحين والآخر، أن استعمل الغرب توصيفا أو تقسيما مذهبيا للأدوار التى كانت تكلف بها كل من تركيا وإيران.  كان المفهوم فى معظم الحالات أن الدولتين ملتزمتان بدعم التيار المحافظ فى العالم العربى فى مواجهة التيارات التقدمية والقومية المناهضة للنفوذ الغربى.

 

ولم يحدث فى أى مرة، حسب ما نذكر، أن سمح الغرب لإيران أو تركيا بممارسة نفوذ تفضيلى فى مناطق عربية مجاورة لأى منهما، فلم يكن لإيران دور إضافى فى الخليج والعراق باعتبارها دولة جارة، ولم يكن لتركيا ميزة إضافية لقربها من بلاد الشام أو الرافدين.

 

ولم يحدث أن كلف الغرب إيران بمهام فى الخليج أو العراق استنادا إلى أنها شيعية المذهب ولم يكلف تركيا بمهام فى العراق وبلاد المشرق عموما استنادا إلى أنها سنية المذهب. بمعنى آخر هيمن الغرب على علاقات الجوار فى الشرق الأوسط حتى أمكن اعتبار الجوار وعلاقاته بالعرب جزءا من سياسات الغرب ونفوذه ولم يكن عنصرا مستقلا، أو مدفوعا بأغراض مذهبية أو بيئية أو ثقافية، أو حتى تاريخية رغم ثقل التاريخ فى بنية الإقليم الثقافية الحضارية.

 

 

لا يفوتنا أن نذكر أنه فى النصف الأول من حياة النظام العربى، أى حتى عقد الثمانينيات من القرن الماضى لم يكن للدين نفوذ كبير فى دوائر صنع السياستين التركية والإيرانية.

 

 

•••

 

نشهد هذه الأيام محاولات تقوم بها الدولتان الجارتان، إيران وتركيا، لإجراء تقسيم جديد للعالم العربى. لقد استخدم أحد الكتاب فى إحدى الصحف الأجنبية، وأظن أنها كانت صحيفة وول ستريت، تعبيرا فى وصف هذه التجربة استوقفنى.

 

 يقول إن الثابت بالنسبة إليه هو أن إيران وتركيا تجريان حاليا محاولات لرسم خريطة جديدة للعالم العربى بناء على تصورات، غير متفق عليها بالضرورة بين البلدين. تسعيان بالسباق والمنافسة واستغلال التطورات الداخلية فى دول المنطقة وفى مقدمة هذه التطورات الربيع العربى. أتصور شخصيا أنه يوجد فى مؤسسات الدولتين مسئولون يتصورون عالما عربيا جديدا أو وضعا إقليميا مختلفا فى المستقبل القريب لن يحتاج تحقيقه استخدام درجة عالية من العنف كما حدث عند رسم التقسيم الأول للإقليم خلال الحرب العالمية الأولى، أو عندما خرج إلى الوجود النظام العربى فى خضم عنف شديد وحرب عالمية ثانية.

 

أتصور أن المسئولين المهتمين بمستقبل الشرق الأوسط فى كل من طهران وأنقرة حريصون على أن تنتهى عملية رسم الخريطة الجديدة وتنفيذها على أرض الواقع بأقل درجة من العنف الإقليمى وإن أمكن بدون أى درجة من العنف بين اللاعبين الأساسيين وهما إيران وتركيا، حتى تستحق الخريطة الجديدة صفة التقسيم الناعم.

 

 

•••

 

بات واضحا، للخارج وللدولتين الجارتين وربما لبعض أهل النظام العربى، أن عواصم غربية تدرس، وبحرص شديد، وضع حدود لنفوذ كل من إيران وتركيا فى الإقليم العربى، بحيث لا يتداخلان، والأهم ألا يتشابكان. يقول محمد أيوب الأستاذ بجامعة ميتشيجان بالولايات المتحدة إنه يكاد يرى المستقبل المنحاز لإيران وتركيا خارجا من تحت رماد ثورات الربيع العربى.

 

 كثير من المعلقين يعتقدون أن العالم العربى الرسمى يمر فى أضعف حالاته، على عكس العالم العربى غير الرسمى بشبابه وفئاته ونقاباته ونسائه، الذى يكتسب قوة كل يوم. التهديد يتصاعد فى وجوه كل أنظمة الحكم العربية التى رفضت أو ترفض استلام إنذارات شعوبها المتتالية وهناك حكومات عربية لم تستقر أحوالها أو مهدد استقرارها وأغلبها، فى هذه الحالة، غير قادر على أن يتخذ سياسات خارجية ودفاعية جريئة وقوية. يحدث هذا، فى وقت يعانى فيه النظام العربى عواقب سقوط هيكل التوجيه والقيادة فيه، وغياب عنصر الهيبة المتبادلة بين دول النظام.

 

 

نقرأ هذه الأيام لصحفيين ومحللين يكتبون عن مناطق الاعتدال الاسلامى فى النظام العربى، ويقررون أنها تقع فى شمال أفريقيا، وأنها قد تجد فى تركيا راعيا مناسبا وفى إمارة قطر ممولا كريما، بينما نقرأ لآخرين تصورات تعبر عن أن ما يحدث فى العراق الآن لا يخرج عن كونه انقلابا دبره نورى المالكى ليزداد بفضله التصاقا بالنفوذ الإيرانى فى مواجهة احتمالات ما بعد سقوط النظام فى سوريا.

 

 أعرف كثيرين فى المشرق يشككون فى مقولة اعتدال الاخوان المسلمين الصاعد فى سوريا ويرفضون تشبيههم بأقرانهم فى مصر وتونس. أغلب الظن فى كل الأحوال أن يكون الأتراك قد درسوا وبعمق كاف طبيعة الجماعة الإسلامية السورية ووضعوا السياسات التى تضمن لهم حقهم فى التدخل، الناعم إن أمكن، إذا تولت الحكم فى دمشق وعمان تيارات إسلامية متطرفة.

 

 

يراهن بعض المعلقين فى الغرب على أن هلالا سنيا معتدلا فى العالم العربى يتشكل ممتدا من شمال أفريقيا مارا بمصر وعابرا سيناء إلى غزة وربما الضفة الغربية والأردن فى مرحلة لاحقة ومنتهيا بسوريا. يراهنون أيضا على أن استقرار هذه التيارات فى الحكم وحماية هذا الهلال وضمان اعتداله سوف يقع أساسا على عاتق تركيا، سواء فى وجود حكومة أردوغان أو بعدها.

 

 يعتقدون أن قادة الهلال العربى لن يترددوا فى طلب الدعم التركى، ولن تجد الولايات المتحدة أفضل من تركيا قائدا لهذه التيارات على الأقل فى مرحلة النشأة. وأظن أن إيران لن تشعر بالقلق إن وجدت تركيا مرتاحة إلى هذا الاحتمال، لا لشئ إلا لأنها تعتقد أن انشغال تركيا بهذا الهلال وبتهدئة الأمور فى كردستان كفيلان بإبعادها عن منطقة الخليج والعراق، خاصة وأن كل ما تسعى إليه تركيا الآن فى العراق هو مد أنبوب نفط كردستانى إلى شواطئ البحر المتوسط مرورا بأراضيها وتوفيق العلاقة مع حكومة أربيل وزيادة اعتمادها على أنقرة.

 

 

•••

 

نقف الآن على طريق تحولات كبرى فى النظام العربى، فى وقت تكاد السياسات الخارجية والعلاقات البينية للدول العربية تكون فى حالة شلل، نأمل أن يكون مؤقتا وقابلا للعلاج الناعم وليس بعمليات جراحية جديدة. 

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي