رأيت فيما يرى النائم ــ وده بجد، مش أدب ولا تأليف ــ رأيت دَوَرانا به خيام. كنت أنظر إليه من موقع عالٍ فأرى الخيام بأشكالها وألوانها وانبعاجاتها واستوائها، وأرى الحبال التى تمتد بين الخيام، والتى تربطها بالأرض، وأرى الأعلام ترفرف فوقها. وكنت أدرك أنه التحرير، وأنها الصينية على الشكل الذى ألفناه الآن لمدة عام. لكن هذا الإدراك كان كالمعلومة القديمة؛ فقد كان التحرير، نعم، لكنه كان شيئا آخر فى نفس الوقت. لوهلة كان كالغليون القديم، نراه فى الأفلام التى تحكى قصصا من الماضى، مركب كبير والخيام أشرعة، ورأيت البحارة يجرون هنا وهناك، يتسلقون الحبال، يشدونها ويوثقونها. ثم تكشف لى عن حقيقته: مركبة فضائية ضخمة، خفيفة، تخفق أجنحتها الكثيرة، الحبال التى تقيدها بالتراب ترتخى، تستعد للإقلاع، ترتفع عن الأرض، تُحَلِّق.
إن شاء الله خير. عندى تفاؤل عظيم.
تفاؤل بالتحرير وبالثورة فى عموم مصر. النظام الجديد ــ القديم لا يحتكم إلا إلى الأسلحة القديمة، والثورة أدواتها جديدة ومتجددة دائما. هل جاءت حملة «كاذبون» إلى حَيِّكم؟ انظروا إلى إبداع شبابنا، إلى الأفلام التى يصورونها ويمنتجونها ويعرضونها فى الشوارع والميادين. يعرضون انتهاكات العسكر على أرصفة حلوان وامبابة ومدينة نصر والمعادى وغيرها، فى اسكندرية وأسيوط والمحلة وغيرها، فى لندن ونيويورك وميلبورن وغيرها. أحيانا يِطلَع عليهم بلطجية النظام بالشوم والسكاكين ــ كما حدث أول من أمس فى دوران شبرا ــ لكنهم يستمرون. أدوات الثورة الإبداع والكلمة والصورة واللحن والمعلومة، نشر الحقيقة والتواصل والنقاش والإقناع. وأسلحة النظام الضرب والقتل والترويع والتفريق والفلوس. فلمن تكون الغلبة؟ انظروا إلى وجوه الناس وهى تشاهد العرض، استمعوا إلى ردود الأفعال، إلى الهتاف التلقائى. هناك الجواب.
وانظروا إلى المبادرات الخاصة بالشهداء وأسر الشهداء، والمبادرات المعنية بالمصابين، مبادرات الناس، مش الحكومة، عشرات المبادرات المتفرقة، بدأت الآن فى البحث عن قريناتها؛ فى التآزر والتلاحم. فالشهداء والمصابون فى قلب الثورة، فى قلوبنا، دائما. حين أُسأل أقول إننا فى مكان أفضل بكثير مما كنا فيه يوم ٢٤ يناير ٢٠١١، وأن أحدا فينا لا يريد ــ لا يمكن أن يعود إلى الوراء. وصوت بداخلى يهمس سائلا: هل هذا القول من حقك؟ ماذا فقدتِ أنتِ فى هذا العام؟ لكنى أستمع إلى كلمات مالك، وأحمد حرارة، إلى أمهات الشهداء، وكلماتهم تقوينى وتنير طريقى. لكل شهيد وكل مصاب حقان: أن يُكَرَّم ويُخَلَّد وينقش دوره فى الثورة المصرية فى تأريخ الوطن، وأن نأتى بذلك الفوز الذى ضحى من أجله: وطن حر آمن، تدار شئونه لصالح أبنائه فيعيش فيه الجميع حياة كريمة متحققة.
ولن يأتى شىء من هذا فى ظل حكم العسكر. أدى اللواء الفنجرى التحية العسكرية للشهداء فاستشعرت قلوبنا دفئا لذيذا: نحن وثورتنا فى حماية قواتنا المسلحة. ثم نشروا حمايتهم على عمرو البحيرى، ومايكل نبيل، وسميرة إبراهيم، وهند بدوى، وغادة كمال، وفريدة الحصى، ومينا دانيال، وعلاء عبدالهادى، ومالك مصطفى، وسامح عز، وآلاف من شباب البلد، آلاف من صانعى مستقبل بلادنا.
ولذا، فهناك الآن مبادرة تسليم السلطة. الآن، وبدون انتظار إلى يونيو أو إلى ابريل أو أى شهر آخر؛ فكل يوم انتظار له خسائر محتملة لا نحتاجها. الآن، فى يناير، وقبل ٢٥، عندنا مجلس شعب منتخب؛ نواب عنا، فَوَّضناهم ليمثلونا فى التشريع وفى اتخاذ القرار. فليتفضل المجلس العسكرى، الذى لم ننتخبه ولم ننتقيه، بل فوَّضه المخلوع الذى كان رئيسا بالتزوير، وفرضته علينا الظروف ــ ليتفضل بتسليم السلطة كاملة غير منتقصة إلى ممثلى الشعب الشرعيين المنتخبين.
رأينا كيف وفّى المجلس العسكرى بوعده الأول: الوعد بحماية الثورة، فكيف سيفى بالثانى: نقل البلاد إلى حكم ديمقراطى حقيقى؟ المجلس يريد تلك الحالة التى يلوح بها فى وجوهنا فى كل فرصة: الاستقرار. لكن الواضح أنه يريد استقرارا على وضع مشابه، إن لم يكن مطابقا للوضع الذى ثار الشعب عليه. الكل يفهم أن المجلس له امتيازات وضعية وسياسية واقتصادية ويريد أن يحافظ عليها. السؤال هو: هل يستطيع الحفاظ عليها، أو على جزء يرضاه منها، إن تحققت أهداف الثورة الاقتصادية والاجتماعية؟ تصرفات المجلس من محاولات متعددة متباينة لإجهاض الثورة توحى بأنه يرى تعارضا تاما بين الوضع الذى يرتضيه هو وبين الأوضاع التى ترسمها الثورة وتهدف إليها: وطن حر آمن، تدار شئونه لصالح أبنائه فيعيش فيه الجميع حياة كريمة متحققة.
أملنا أن تأتى المجلس العسكرى لحظة تنوير فيرى أن الطريق الذى يسحل البلاد فيه الآن لن يصل ــ مهما عمل ــ إلى حيث يريد. فمصر لن تعود أبدا للوراء. مركبة التحرير صاعدة لا محالة، مستقبل بلادنا فضاء رحب ونحن متجهون إليه. هذا حق البلاد وحق الشباب وحق الشهداء. أملنا أن يقتنص المجلس الفرصة التاريخية (الأخيرة، ربما؟) التى أمامه اليوم، فيُسَلِّم السلطة ويرحل عن حياة البلاد السياسية والاقتصادية. فهو كلما أمعن فى محاولات وأد الثورة كلما استفاق الشعب ــ حتى أولئك الذين كانوا يفضلون الحلول الوسط، أو الذين يخافون فعلا من تقويض «العمود الأخير للدولة» ــ وأدرك أن طموحاته للمستقبل تتعارض تماما مع رؤية المجلس العسكرى.