صحبة وأنا معهم - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 7:04 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

صحبة وأنا معهم

نشر فى : الخميس 11 أبريل 2019 - 11:15 م | آخر تحديث : الخميس 11 أبريل 2019 - 11:15 م

الصدفة وحدها هي التي قادتني للتعرف على أربع من النساء الرائعات كن ينتحين زاوية ويتناولن طعام الإفطار في أحد فنادق الإسكندرية، مررت بهن فإذا بمغناطيس يجذبني إليهن. تكررت الصدفة في اليوم التالي أيضا على الإفطار، ومع أن علاقتي بهن عمرها نهاران لا أكثر، إلا أننا قد جمعتنا صور مشتركة وصارت بيننا دردشة وضحكات وتبادلنا أرقام الهواتف. أربع سيدات أرامل، أصغرهن في السبعين من عمرها وأكبرهن في الواحدة والثمانين ولديها حفيدة متزوجة، وكلهن مسكونات بطاقة من البهجة والإقبال على الحياة تشدّك إليهن شدّا، ألم أقل إن فيهن مغناطيس؟ سوف أحجب أسماءهن عمدا لأكون على راحتي وأنا أحكي عنهن، ففيهن أخت لأحد كبار المسؤولين السابقين. سألتُ إحداهن: هل تغيرت العلاقة بينكن عندما تولى المسؤول إياه منصبه وصارت صاحبتكن من ذوات الحظوة والامتيازات؟ تضحك من قلبها وتقول: إطلاقا لم تتغير صاحبتنا ولا كانت لها امتيازات ولا يحزنون، وأزيدك من الشعر بيتا فأقول إن والدة هذا المسؤول الكبير وهي سيدة مسنة كانت تذهب إلى حفلات الأوبرا بتاكسي، وكانت تضطر أن تقطع الطريق من بوابة الدخول إلى مكان الحفل سيرا علي قدميها، هل هذا معقول؟ نعم حدث هذا، أحببت الاقتراب منهن أكثر.

***
نشأَت علاقة الصداقة بين النساء الأربع على كبَر فلم تجمعهن سنوات الدراسة لا في المدرسة ولا في الجامعة، فإحداهن كانت مديرا عاما في شركة مصر للطيران، والأخرى مدرسة لغة إنجليزية، والثالثة مفتشة آثار، والرابعة موظفة في جامعة الأزهر. تكوّنت صداقتهن بالواسطة، وكان الوسطاء هم الأزواج الأربعة الذين عملوا معا في الثمانينيّات في شركة أرامكو في السعودية، هن إذن لسن الطرف الأصيل في علاقة الصداقة، ومع ذلك قاومَت صداقتهن كل سخافات الغربة التي قد تجعل المصريين أضدادا، أكثر من ذلك رحل أزواجهن تباعا لكنهن أوجدن أساسا مشتركا للصداقة فدامت بل وتوثقت. رنّ جرس المحمول لإحداهن رنة موسيقية علمت لاحقا أنها لأغنية عمرو دياب الجديدة " ما اقدرش ع النسيان" فتناثرت عشرات الزهور الملونة وملأت الأرض والسماء، اقتربتُ خطوة جديدة.

***
على سنجة عشرة كما يقولون كانت الصديقات الأربع خلال النهارين اللذين التقيتهن فيهما، ثيابهن أنيقة حليهن الفضية مجلية وألوانهن مفرحة، قالت لي إحداهن: ميعادي الأسبوعي مع الكوافيرة ميعاد مقدس، سواء حين كنت أرتدي الحجاب أو بعد أن خلعته لا فارق بين الحالتين، اقتربت منهن أكثر فأكثر. الموت هو الحقيقة الوحيدة المؤكدة هذا صحيح، لكن بين دخول الحياة والخروج منها توجد رحلة، وهذه الرحلة تستحق أن تُعاش.

هكذا حوّلت السيدات الأربع حياتهن إلى مجموعة من الرحلات، كلما سمحت الظروف وتوفرت الإمكانيات يتشاورن ويقع اختيارهن على مكان معين، مرة الغردقة، مرة أسوان، مرة الإسكندرية، مرة سهل حشيش. لديهن وزيرة مالية تقدّر الميزانية وتوزع عليها بنود الإنفاق ويتوكلن علي الله. في رحلتهن الأخيرة إلى الإسكندرية حيث تعرفت عليهن، زرن المُرسي أبو العباس، وشربن الشاي بالنعناع على مقهي الملك فاروق، تناولن الحلوى عند ديليس وأجرّن عربة حنطور وطفن بها علي الطابية وبيت ريا وسكينة. تعيد هؤلاء النساء الرائعات اكتشاف مصر بهدوء وبالراحة بعد أن خلت منازلهن وهجرها الأولاد، فمنهم من هاجر إلى أمريكا أو كندا ومنهم من استقر في الخليج، هن لا يعدن اكتشاف مصر فقط لكنهن يسجلن أيضا ملاحظاتهن على الأماكن السياحية وتغير حالها من زمن لآخر، قالت إحداهن بأسى: اختفت أكثر مجوهرات أسرة محمد علي ولم يتعاون معنا موظفو قصر فاطمة الزهراء.

***
بين رحلة وأخرى تلتقي الصديقات الأربع في ختمة قرآن، أو في حديقة النادي، أو في سينما أحد المولات التجارية الكبرى، أو في مهرجان الموسيقي العربية، ينمن بعد صلاة الفجر ويدب فيهن النشاط قرب التاسعة، هل يوجد أجمل من ذلك؟ لا يوجد أجمل من ذلك. ألتقطُ دهشة طفولية في صوت إحداهن وهي تقول إنها في أول مرة استمعت إلى أغنية النيل نجاشي من فرقة الموسيقي العربية وقعت في غرامها، همسَت لها سيدة كويتية جاءت خصيصا من الكويت للاستمتاع بالمهرجان: كيف تكونين مصرية وتقولين إنك لم تسمعي من قبل بالنيل نجاشي؟ الله على التعبير، قالتها السيدة الكويتية ببساطة وتركتنا في حيرة من أمرنا ونحن لا نعرف إن كانت الوهابيات هي توأم مصريتنا أم أن نهر النيل هو توأمها أم كلاهما؟ تُسأَل الضيفة الكويتية في ذلك عند زيارتها القادمة القاهرة. خروجاتهن مشتركة لكن أذواقهن تختلف، فهذه تفضل القراءة باللغة الإنجليزية وهؤلاء يفضلن اللغة العربية في القراءة، هذه تحب الأفلام الرومانسية وتلك تحب أفلام الجريمة، ألا تفزعك أفلام الجريمة وأنت وحيدة في المنزل؟ أسأل فترد بثقة: ما عفريت إلا بني آدم. أقترب أكثر وأكثر إلى حد الالتصاق وإلغاء المسافات.

***
تطلقُ الصديقات الأربع على مجموعتهن اسم "عظيمات مصر"، ومن حيث إنهن عظيمات بهذا الإقبال على الحياة وتحدي الظروف الصعبة فإنهن عظيمات، لكن ربما يكون الأنسب لو أطلقن على مجموعتهن "عظيمات في مصر". أختم بحكاية حكتها أكبرهن عُمراَ بظرف شديد فقالت إنها متى غاب عنها الأولاد والأحفاد عوّضت نفسها على طريقتها، تقف أمام المرآة وتديم النظر إلى وجهها وتروح تتغزل فيه بعبارات من نوع "يا سلام عليكِ يا سمسمة يا حلوة!"

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات