مكرم عبيد - إكرام لمعي - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 2:03 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مكرم عبيد

نشر فى : الجمعة 11 يونيو 2021 - 8:30 م | آخر تحديث : الجمعة 11 يونيو 2021 - 8:30 م
«إن قلت الصدق كذبتمونى، ولو قلت الكذب صدقتمونى، إذن ليحيا كذبى، وليسقط صدقى»، هذه المقولة حكاها لى والدى وأنا صبى صغير، وهو يتحدث عن عظمة المحامى والسياسى البارز البليغ «مكرم عبيد»، قال: فى وقت كان رئيس الوزراء المصرى يُدعى «إسماعيل صدقى»، وكان حُكمه ديكتاتوريًا حديديًا، وأراد أن يوصل له رسالة. بالطبع واضح التورية بين صدقى وصدقى، واللعب بالكلمات.
ومصر وهى تحتفل بذكرى ميلاد ذلك السياسى والمحامى الضليع من واجبنا أن نتحدث عن أولئك السياسيين، الذين سبقوا ثورة يوليو، خاصة وأن ثوار يوليو قصدوا أن يوصموا الحكم الملكى السابق لهم بكل نقيصة، وأثبت التاريخ العكس تمامًا؛ فقد ألغى الحكم الأحزاب، وخرَّب الاقتصاد، فقد كانت قيمة الجنيه الورقى المصرى يوم قيام ثورة 23 يوليو 1952 يساوى ذهبًا ٩٧٫٥ قرشًا. ودخل حكام مصر فى حروب لا ناقة لمصر فيها ولا جمل فى اليمن والجزائر وليبيا بل وفى أفريقيا.. إلخ وانتهى الأمر بعقد مصالحة مع إسرائيل برعاية أمريكية فى كامب ديفيد.
وقامت ثورة ٢٥ يناير ضد حكم مبارك وقفز الإخوان على الثورة، لكنهم حكموا لمدة عام كان الأسوأ فى التاريخ المصرى، وجاءت ثورة التصحيح بقيادة الرئيس عبدالفتاح السيسى وخرج الشعب عن بكرة أبيه يؤيد الثورة ضد الإخوان. وبالعودة إلى «وليم مكرم عبيد» نجده ولد فى أسيوط، وعائلته تنحدر إلى المعلم «إبراهيم الجوهرى»ــ وهو أحد أعلام التاريخ المصرى الذى قاوم الحملة الفرنسية على مصرــ وانتقلت الأسرة إلى قنا وكان مكرم واحدًا من بين ١١ أخًا وأختًا، كان يمتلك ٣٠ فدانًا لكنه اشتغل فى المقاولات مع إخوته. وقام حينئذ بعمل قومى هو مدّ خط السكة الحديدية بين نجع حمادى والأقصر، وقد قلده الوالى فى ذلك الوقت (الوسام المجيدى) لإنجازه وأعطاه لقب البكوية، فأصبح مكرم بك وقد تنازل عن اسم (وليم) لأنه أجنبى.
درس مكرم عبيد فى الكلية الأمريكية بأسيوط (مدرسة العروبة الآن)، والتى أنشأها المرسلون الإنجيليون والذين بدأ نشاطهم لنقل الإصلاح الدينى الذى حدث فى أوروبا فى القرون الوسطى إلى مصر عام ١٨٥٤م (الكنيسة الإنجيلية الآن). ثم أرسله والده إلى جامعة أكسفورد ليكمل دراسته هناك، وكان عظماء الأمة المصرية يتخرجون فيها ويتباهون أنهم خريجو أكسفورد حتى فى البرلمان، حصل على المرتبة الثانية فى تخصصه القانون وفى طريق عودته إلى مصر التحق بجامعة ليون بفرنسا ليكمل دراساته العليا فى القانون. وهناك تأثر بالتوجهات الفكرية الحديثة وأعجب بالفلسفة الاشتراكية، ولفت نظره أنها تُعمق الاتجاهات غير الدينية، وكان قد تبنى هذه الموجة صفوة المجتمع المصرى حينذاك مثل محمد حسين هيكل صاحب أول رواية فى الأدب العربى (زينب) ثم قرية ظالمة. وكان الملك فؤاد – كعادة الحكام المثقفين – ينظر إليهم بشك على أساس أنهم يؤيدون الاشتراكية الفرنسية والنظام الجمهورى. وقد آمن مكرم عبيد بالعلمانية والوطنية تمامًا وأثر ذلك فى مستقبله السياسى. وعلى طريق عائلة ويصا وخياط فى أسيوط، تحول مكرم عبيد إلى كنيسة الإصلاح الدينى (مارتن لوثر) البروتستانتية الإنجيلية والتى كانت تنادى بالاستنارة الدينية والعلمانية. من هنا انقسمت عائلة عبيد، ولأن مكرم كان ذكيًا وطموحًا تمسك بأرثوذكسيته، أو قل عاد إليها لأنه علم بذكائه أنه لن يكون له مستقبل سياسى لو تمسك بانتمائه إلى أقلية الأقلية بالكنيسة الإنجيلية؛ حيث كان البابا يختار الأقباط الذين يطلب الملك أن يعينهم فى مناصب عليا، وقد استمر هذا الأمر فى العصر الجمهورى، لذلك تمسك مكرم بأرثوذكسيته رغم اقتناعه بالإنجيلية، لأنها تحمل فكرًا تنويريًا سياسيًا واجتماعيًا. وقد سار على دربه أفراد عائلته الذين اشتغلوا بالسياسة رغم استقلال الكنيسة الإنجيلية المصرية عن مؤسسيها الأجانب عام ١٩٣٦م لتصبح كنيسة مصرية خالصة، فالدولة تتعامل مع الكنيسة الأرثوذكسية لأنها تضم الأكثرية ولأنها الأقدم.
•••
برز فى ذلك الوقت تيار ثقافى سياسى تنويرى ضد ديكتاتورية الخديوى توفيق والاحتلال الأجنبى، كان على رأسهم الشيخ «محمد عبده» والشيخ «جمال الدين الأفغانى»، ولقد نظر الأفغانى ومحمد عبده إلى الإحياء البروتستانتى كحافز مشابه لآرائهم الداعية للإصلاح الدينى الإسلامى. ولقد كان لمحمد عبده تلاميذ نابهون على رأسهم «سعد زغلول» و«طه حسين» و«أحمد لطفى السيد» و«محمد رشيد رضا» الفقيه السورى الذى التصق بمحمد عبده وأسس جمعية الشبان المسلمين على غرار جمعية الشبان المسيحية، ولقد كان الموضوع الرئيسى فى الحوار الوطنى الدائر بين قيادات هذه المجموعة وصُدر للعامة: «لماذا تتقدم الدولة العلمانية الكافرة فى الغرب؟ بينما تتخلف الدول المتدينة فى الشرق؟» وكانت إجابة الأفغانى (إن الحل فى تجمع الأمة الإسلامية ونسيان الخلافات التى تقسمها) وكانت إجابة محمد رشيد رضا الخلافة الإسلامية وتطبيق الشريعة، وكانت إجابة لطفى السيد وطه حسين (العَلمانية وتبنى العِلم الأوروبى والنهضة الأوروبية)، ومن الغريب – عزيزى القارئ – أن مصر انقسمت حتى اليوم بين هاتين الفرقتين.
وسوف يذكر التاريخ أنه بسبب هذا التردد تحولت مصر إلى دولة أشبه بالدينية فى وقت ما، وأن جهدها كان يضيع فى ذلك الصراع بين الاستنارة الدينية وبين التمسك بالقديم دون اجتهاد، واستخدام العنف بين الطرفين بسبب المحدودية الثقافية والاستنارة ورفض الآخر.
بعد وفاة مصطفى كامل ١٩٠٨م توجه سعد زغلول وعبدالعزيز فهمى وعلى شعراوى إلى مقر المندوب السامى البريطانى للمطالبة باستقلال مصر وقد اعتبرت تلك الخطوة البداية التاريخية الحقيقية لقيام حزب الوفد، وقد قوبل طلب الاستقلال بالعنف ونفى رئيس الوفد ومعه محمد محمود باشا وحمد الباسل وإسماعيل صدقى إلى جزيرة مالطة، وهكذا اندلعت المظاهرات والاضطرابات والتخريب. وكانت كلمة السر سعد زغلول لأنه زعيم شعبى ابن فلاح وحوله كوكبة مصرية منتقاة من تلاميذ محمد عبده مثل «ويصا واصف» و«أحمد لطفى السيد» و«مصطفى النحاس»، وبعد انتخاب سعد زغلول رئيسًا لحزب الوفد أعطته الجماهير تأييدًا كاسحًا. وقد جمع سعد زغلول بين أفكار محمد عبده التقدمية وأسلوب مصطفى كامل الوطنى، فأخرج من الحزب من سقط فى عيون الجماهير وضم بدلهم من رأى فيهم مستقبل الحزب ومن أهمهم الشاب مكرم عبيد والذى صعد بعد ذلك ليصير سكرتير الحزب. إلا أنه فى البداية لم يلفت نظر سعد زغلول لكن لفت نظره قدرته اللغوية سواء فى العربية أو الإنجليزية وقد أعجب به لبلاغته فى اللغتين حيث كان يخطب أمامه ولفت نظره عبارة «إننا لا نعيش داخل مصر لكن مصر هى التى تعيش وتجرى فى دمائنا» وهى نفس الجملة التى اقتبسها البابا شنودة وأعطاها بُعدًا بلاغيًا موسيقيًا بقوله: «إن مصر ليس وطنا نعيش فيه لكنه وطن يعيش فينا».
•••
صار مكرم عبيد المبعوث الأساسى عن سعد زغلول للندن حيث قدم احتجاجات ضد مندوب الحكومة البريطانية، ذلك لأن سعد زغلول كان يعتبر نفسه الممثل الحقيقى للأمة المصرية. فى عام ١٩٢٢م وجهت السلطات البريطانية إنذارًا للشخصيات التى حول سعد تطلب منهم ترك القاهرة والإقامة فى الريف، وإلا قامت بنفيهم خارج البلاد، وقد رفض قادة الوفد الإنذار، لكن مكرم عبيد تشدد فى رفضه للإنذار فصدر قرار بنفيه، وهكذا تحول من وفدى سياسى إلى وطنى ثائر، وبالطبع بعد عودته من المنفى صار أكثر قربًا لسعد زغلول. وهنا علينا أن نلاحظ أن السياسيين كانوا من أعالى القوم وأكثرهم ثقافة وتحضرًا من الآخرين، وهذا عكس ما حدث إلى حد ما فى ثورة ٢٣ يوليو؛ حيث تراجعت الكفاءات وذوو الخبرات وأعالى القوم، ولولا أن عبدالناصر كان لديه مشروع قومى التف الجميع من حوله مما أخر التدهور، لكن كان لابد أن تحل هزيمة ١٩٦٧م فكشفت أن الحنكة السياسية والدبلوماسية وحتى العسكرية لم تكن موجودة، وجاء السادات (والذى اعتبروه أذكاهم) فأتى بالتيار الإسلامى وبدت الكارثة أكثر وضوحًا ووصلت قمتها فى عهد مبارك، من هنا اندلعت ثورة ٢٥ يناير. ومن الواضح أن الرئيس السيسى كان يلاحظ التاريخ بذكاء شديد مما أدى إلى تحول واضح نحو السياسة والدبلوماسية الحديثة من ناحية والموقف السياسى من التيار الدينى المتشدد من الناحية الأخرى.
فى عام ١٩٣٧ حدث انشقاق بين النحاس ومكرم عبيد، وترك مكرم الوفد غير مأسوف عليه، ووصف الدكتور محمد محجوب الأديب المعروف مكرم عبيد بالقول «إنه خطيب يؤثر بالعاطفة كالموسيقى، صديق مخلص، عدو جبار، ملاك فى صداقته، شيطان فى خصومته».
رحل مكرم عبيد عن دنيانا فى ٥ يونيو ١٩٦١م وألقى السادات الذى كان رئيسًا لمجلس الأمة فى ذلك الوقت خطابًا فى تأبينه بالكنيسة المرقسية مشيدًا بنضاله لأجل الاستقلال فى عام ١٩١٩م وأنهى كلمته بالقول «إن أبطال ٥٢ يَعِدون أبطال ١٩ أن يمضوا على طريق النضال الذى بدأه أبطال ١٩١٩م وضحوا من أجله».
لكنهم لم يفعلوا وخاصة السادات.
إكرام لمعي  أستاذ مقارنة الأديان
التعليقات