حكاية أرض أحبها أهلها - أميمة كمال - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 11:41 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حكاية أرض أحبها أهلها

نشر فى : الإثنين 11 أكتوبر 2010 - 10:29 ص | آخر تحديث : الإثنين 11 أكتوبر 2010 - 10:29 ص

 ما إن حاولت أن أتجاوز الدرج الأول من سلم النفق، الذى شيده الثوار الفيتناميون فى مدينة سايجون فى جنوب البلاد أيام حربهم ضد الأمريكان، حتى كدت أصاب باختناق جعلنى لا أستطيع التنفس على الإطلاق. فعدت مسرعة إلى خارج النفق راجية نسمة هواء تنقذنى من ضيق النفس هذا.
هذا النفق، الذى لا تتجاوز فتحته نصف متر، التى تكفى بالكاد لإدخال الثائر أو الثائرة الفيتنامية قليلة الحجم فقط، بينما ينحشر فيها الأمريكانى إذا حاول، هو المكان الذى عاش فيه المقاتلون طوال سنوات حربهم ضد الأمريكان.

ومن هذا المكان حققوا النصر فى السبعينيات على أعتى جيش فى العالم.هذا النفق الذى لم أستطع أن أبقى فيه للحظات كان يصمد فيه الثوار الفيتناميون لسنوات طويلة، واحتموا به لدرجة احتار معها الأمريكان الذين دمروا منطقة أنفاق بالكامل اسمها (مدينة كوتسى) بزرعها وبيوتها وناسها دون أن يعثروا على مواقع الثوار. استطاع المقاومون الفيتناميون فى هذا النفق الذى يزيد عمقه على 15 مترا تحت الأرض أن ينظموا فيه غرف عمليات للقيادة، وغرفا لإجراء العمليات الجراحية للجرحى. التى كان الأطباء يستعينون فيها عند إجراء العمليات بنقل الدم من الجريح الأقل إصابة إلى من هم حالاتهم أخطر لقلة الدماء لديهم.

فقد استشهد فى هذه المنطقة حوالى 55 ألف شهيد وشهيدة.
وعندما كان ذلك الجندى الرائع واسمه (تسانه) فى موقع الأنفاق يشرح لنا (وفد من الصحفيين المصريين قد زار فيتنام فى الأيام الماضية) وعيناه تلمعان فخرا بوطنه وأهله كيف كان الأمريكان يرسلون كلابهم البوليسية للبحث عن فتحات الأنفاق.

وراح هو يقلد بنفسه كيف كان المقاومون ينزلون إلى الأنفاق، ويغلقون وراءهم فتحة النفق بورق الشجر، وبالأعشاب المترامية على الأرض فى محاولة للاختفاء. إلا أنهم فى بعض الحالات التى كانوا يتعرفون على وجود الثوار كان الأمريكان يرمون لهم بمواد سامة فى الفتحات الضئيلة جدا، التى شقوها فى سطح الأرض للتنفس، بغرض قتلهم خنقا داخل الأنفاق.

ويقفز ذلك الجندى المرافق لنا فرحا وهو يذكرنا بأن الأمريكان لم يستطيعوا الانتصار على الثوار حتى بالمواد السامة هذه، لأن الفيتناميين بدأوا يتحايلون عليهم بأن يمسحوا على فتحات التنفس بأشياء لها رائحة الأمريكان مثل ملابسهم أو عطورهم، أو سجائرهم، التى كانوا يعثرون عليها من الأسرى من الأمريكيين. فما أن يشمها الكلاب حتى ينصرفون لأنهم اعتادوا على رائحة أصحابهم.

كنت أسمع ذلك الجندى الفيتنامى الذى يتحدث فخرا وعزا عن انتصار الفيتناميين الرائع وكأن صوتا يأتى من بعيد يردد فى أرجاء المكان أغنية الشيخ إمام الشهيرة فى السبعينيات «اكتب زى الناس ما بتنطق. سقطت سايجون رفعوا العلم». ثم يأتى صوت أعلى وأعلى يرد «هتش ونتش بعلو الصوت عن أمريكا، وهول أمريكا. زعموا الفانتوم شايل موت، سقط الموت بعلم أمريكا».

وقبل أن أغادر هذا المكان الساحر، الذى سيبقى فى ذاكرتى ما حييت، عرفت الإجابة عن السؤال الذى حيرنى طوال الزيارة. لماذا لا يسمحون فى هذا البلد ببيع شبر واحد من الأرض الفيتنامية لا فى العاصمة، ولا فى الطريق الصحراوى، ولا على النهر، ولا فى الساحل الشمالى؟!. البيع محظور لا بغرض التعمير واستصلاح الأراضى، أو لبناء المنتجعات السياحية، والسكنية، ولا حتى لإيواء محدودى الدخل.

الأرض الفيتنامية ملك لكل الفيتناميين، ممنوع أن يستأثر بها أحد سواء من الفيتناميين أو الأجانب. والمعجزة أن هذا الحظر والمنع المطلق بدون استثناءات لا لوزير أو قريب النسب لرئيس. يحدث هذا فى بلد نجح فى اجتذاب 191 مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية دون أن يغضب مستثمر واحد من ذلك الشرط.
السبب أن هذه الأرض التى دفع فيها ملايين الفيتناميين دمهم ثمنا لها لا تقدر بكنوز العالم لا دولارات ولا يوروات ولا استرلينيات. الأرض فى فيتنام لأصحابها ولكل الأجيال.

وفجأة قفز أمام عينى ما قرأته فى صباح نفس هذا اليوم على أحد المواقع على الانترنت من تعليقات على ما قاله وزير الإسكان أحمد المغربى فى التليفزيون المصرى من أن أرض مدينتى التى اشتراها هشام طلعت مصطفى ما هى إلا «حتة أرض» صحراوية لا قيمة لها. وإذا لم يكن قد اشتراها فإننا لم نكن لنجد أحدا يشتريها. الأرض فى مصر لا قيمة لها!! قلت فى نفسى رحم الله شهداءنا الذين لم يجدوا من يحفظ دمهم.

كنت وأنا أشد على يد الجندى الفيتنامى الرائع مغادرة لموقع الأنفاق، الذى لا ينسى، أكاد أصاب بالصمم من علو صوت ذات الأغنية الآتية من عصر السبعينيات التى أصبحت تملأ أذنى بشكل لا يمكن تجاهله. «جاتكوا فضيحة يا طبقة سطيحة وعمله فضيحة وجايبه العار». وتصمت الأغنية ويغادرنا الجندى المرافق لفوج سياحى أجنبى جاء يشهد مفخرة الفيتناميين. ويعود الجندى بنفس العزة يحكى حكاية أرض أحبها أهلها.

أميمة كمال كاتبة صحفية
التعليقات