فجأة أصبت قليلا من الشهرة وفى نطاق ضيق جدا لا يتعدى مائتى متر من امتداد شارع درب الجماميز، والفضل فى ذلك يرجع إلى الروائى الكبير والمبدع العظيم الأستاذ خيرى شلبى أمده الله بالصحة والعافية، أيامها كان مشرفا على برنامج ثقافى بالتليفزيون المصرى، وفى إحدى الحلقات عن الأدباء الشبان اختارنى ضمن زملاء آخرين للظهور فى هذا البرنامج، وجاء فريق العمل التليفزيونى إلى الشارع وبدأ التصوير، كان المطلوب منى أن أخرج من الحارة التى أسكنها وأسير فى الشارع مسافة ثم أدخل إحدى المكتبات وأتحدث مع صاحبها ثم اتفقد الكتب الموجودة، كل هذا والكاميرات ترصدنى لحظة بلحظة..
وطبعا تجمع الناس والصبية والأطفال وفتحت النوافذ وأطل السكان منها.. وكان السؤال المطروح.. مين ده والتليفزيون بيصوره ليه..؟ وكانت الإجابة الثابتة والمكررة.. دا كاتب ناشئ التليفزيون بيقدمه.. وهكذا أصبحت معروفا فى منطقة المكتبات بهذه الصفة التى أكسبتنى محبة واحترام كل من علم بها..
وكنت أذهب للسهر فى سيدنا الحسين واتفقد مقهى «الفيشاوى» الذى كان يقصده الشعراء والأدباء ومنهم أستاذنا صاحب جائزة نوبل نجيب محفوظ فإذا وجدت أحدا منهم جلست بالقرب منه أتأمله عن كثب وأسمع إلى حديثه إذا تحدث فى قضية عامة أو أدبية وإذا لم أجد أحدا انصرفت عائدا قاطعا المسافة إلى درب الجماميز سيرا على الأقدام..
وكانت هناك تعليمات فرضت لسبب لا أعرفه بأن تغلق المحلات والمقاهى أبوابها عند منتصف الليل، ولم تكن هذه التعليمات سارية على المنطقة المحيطة بالمسجد.. كانت الساعة قد تجاوزت الثانية عشرة وأغلقت المحلات والحركة فى الشوارع تكاد أن تكون معدومة والظلام سائد ومسيطر بعد أن فشلت مصابيح الإنارة فى تبديده وكأن المدينة فى حالة حظر تجول..
وعندما وصلت إلى مدخل الشارع وجدت مكتبة عم نصر «مفتوحة وبكامل الإضاءة وأسرعت فى خطواتى حتى أستطلع الأمر، الرجل عائد لتوه من مدينة المنصورة وقد اشترى محتويات مكتبة تخلى عنها ورثه أحد عشاق العلم والمعرفة والرجل يقوم بنقل «البضاعة» كما كان يطلق عليها إلى داخل الدكان.. قال لى.. دور يمكن تلاقى حاجة تعجبك..؟
وطبعا اندفعت أقلب فى الكتب وانتقى فى سعادة ونشوة وبعد أن فرغت جلست على كرسى قش أتأمل اختياراتى وأراجعها وإذا برجل يرتدى ملابس الشرطة خرج من جوف الظلام راكبا دراجة وأمام المكتبة نزل من فوق الدراجة غاضبا ومحتدا وزعق فى عم نصر.. أنت فاتح لغاية دلوقت ليه يا أخينا.. عارف الساعة كام دلوقت..
ولا أعرف ما الذى جعلنى أتكلم نيابة عن عم نصر وأقول بكل اللطف والأدب وأنا جالس فى مكانى:
ما علهش يا حضرة الصول.. الراجل بيخزن البضاعة.. ثم دى مكتبة مش قهوة ولا فيه بيع ولا شرا..
كانت المفاجأة المدهشة أن حضرة الصول هذا احتقرنى بشدة ونظر إلى بقرف قائلا بفظاظة.. إنت إزاى تكلمنى وإنت قاعد حاطط رجل على رجل.. استولت عليه الدهشة فأنا جالس وسعيد ومرتاح فى جلوسى دون أن أعى إذا كنت وضعت ساقا فوق ساق أم لا...؟ لكن أمام هذه الخشونة غير المبررة وجدت نفسى أقول له:
وأنت لك إيه عندى.. أقعد زى ما أنا عاوز..
فإذا به وبقبضة قوية يمسك بى من ياقة قميصى ومن أسفل مؤخرة الرأس وهزنى بعنف إلى الأمام وإلى الخلف وهو يصيح:
ــ هقول لك أنا ليه عندك إيه يا مفعوص انت..
وكان لابد أن أقاوم وأدافع عن كرامتى واندفع عم نصر من داخل دكانه محاولا التهدئة. ولكن الرجل قد نفخ فى صفارته وأنا أحاول الخلاص منه ودفعه عنى ورد كرامتى..
منذ أيام وفى وضح النهار كان التليفزيون يصورنى أنا الكاتب الناشئ.. وفى هذه الليلة الكاتب الناشئ معلق من «قفاه» وبقبضة قوية جبارة، وفتحت النوافذ فى الوقت الذى ظهر فيه تأثير الصفارة الذى استقدم عسكر الدرك على عجل.. كل واحد منهم يسأل الصول الذى يمسك بى إمساك الذئب بأرنب:
عمل إيه الواد ده يا حضرة الصول؟
وكان رد الصول فى كل مرة موجزا ومن كلمتين فقط.. مد إيده عليه..
وعلى الفور يزمجر العسكرى قائلا: يا خبر أسود ويرفع يده ويهوى بها فوق رأسى.. عم نصر يصيح وحدوا الله يا جماعة دا كاتب ناشئ.. ولكن بلا فائدة.. وفتحت النوافذ وأطل السكان وأنا بين ثلاثة رجال يتولون أمرى بعناية فائقة..
قال أحدهم لكبيرهم كفاية كده يا حضرة الصول والا ناخده القسم علشان يكمل تعليمه هناك، كدت أضحك وأنا فى هذه المحنة المبكرة، والحقيقة أننى كنت أود أن يخرجوا بى بعيدا عن الشارع حيث أصبحت فرجة وضربهم لى أصبح بالنسبة لهم متعة.. وهتف الصول.. لازم يتعمل له محضر.. وجرونى.. ومن أول شارع درب الجماميز وحتى قسم السيدة وكل عدة أمتار يظهر عسكرى جديد ويسأل عمل إيه الواد ده؟ والصول يقول مد إيده عليه.. والعسكرى يجامل بيده القوية.. وهكذا حتى دخلت القسم..
ضابط شاب كان مشغولا بحديث تليفزيونى يجريه وهو فى حالة استرخاء وعلى وجهه بشاشة.. هذا الضابط أصبح له شأن كبير فى عالم الرياضة فيما بعد.. ويبدو أن قدوم الصول وهو يدفعنى أمامه قد أفسد عليه هذه المكالمة الليلية.. نظرة سريعة وسأل:
عمل إيه بسلامته..؟
وإذا بالصول الجبار المفترى يبدو فى وداعة حمامة وصوته واهنا كسيرا.. مد إيده عليه يا باشا.. ودا ولد أصغر من ولادى.. وقبل أن أنطق قال الضابط..
ــ حطه فى التخشيبة دلوقت..
والتخشيبة غير الحجز.. التخشيبة خاصة بالحجز المؤقت وهى مكان محاط بسياج حديدى فى نفس الغرفة الموجود بها الضابط المناوب.. فى نفس اللحظة التى دخلت فيها التخشيبة دخل عم نصر الغرفة وصوته يسبقه والله عيب تعملوا فى ولاد الناس كده.. العدل لازم ياخد مجراه.. يا باشا ضربوه «ضربوه جامد» وبعدين دا كاتب ناشئ.. والضابط هذا صامت جامد أشار له بيده كى يصمت.. وسأله:
إنت مين وعاوز إيه..؟
وهنا نطق الصول همسا وفى انكسار..
ما هو دا صاحب المكتبة اللى كان مخالف ولسه فاتح لغاية دلوقت..
وكان قرار الضابط الفورى
دخلوه التخشيبة..
وهكذا أصبحت أنا والرجل الطيب فى قفص واحد.. لاحظت أن الرجل دخل التخشيبة دون غضب أو اعتراض، دخل التخشيبة وكأنه يود أن يدخلها بإرادته قائلا.. انت مالكش ذنب يا عم نصر.. مالكش دعوة بيه.. بضاعتك فى الشارع.. وانت عندك عيلة.. ولكنه اسكتنى قائلا..
أنا جاى وعامل حسابى على كده.. لما أكون جنبك ماحدش هيقدر يأذيك.. بس الحمد لله التخشيبة فاضية مفيش فيها واغش..
ثم سكت لحظة وتنهد قائلا:
لا حول ولا قوة إلا بالله.. كل دا يحصل علشان ربع جنيه.. أنا دخلت الدكان علشان أطلعه من المحفظة فى السر.. لو كان ربنا ألهمك الصبر.. لكن إيه المكتوب..
ونظر الضابط إلى عم نصر قائلا.. هوه قريبك يا راجل انت..؟ قال.. لا مش قريبى.. قال الضابط.. مالك وماله.. ما تخليك فى حالك..؟ قال عم نصر رحمة الله عليه:
مش قريبى لكن هوه أمانة عندنا..
التزم الضابط الصمت خمس دقائق ثم قال لعم نصر:
خليه يعتذر للرقيب أول والموضوع ينتهى على كده..
ولكن صرخت من داخل التخشيبة:
مفيش اعتذار.. أنا عاوز أروح النيابة.. وهناك...
أسكتنى عم نصر.. هناك إيه بس.. انت لسه صغير.. البهدلة هنا وهناك..
وقال للضابط ينفع اعتذر بدل منه..!! وتمت التسوية والتى لم أقبل بها.. فى داخلى إحساس بالذل والإهانة..
قال عم نصر:
اللى قدرت عليه عملته يا ابنى.. لو عاوز حقك دور عليه بمعرفتك..
أدركت أصالة الرجل وبعد نظره وحكمته فى التعامل مع الموقف.. ولم أذهب إلى الشارع الذى شهد إهانتى ليلا.. جلست على أحد مقاهى السيدة حتى العاشرة صباحا.. ثم ذهبت إلى الزمالك حيث المجلس الأعلى للثقافة وطلبت مقابلة المرحوم الأستاذ يوسف السباعى رئيس المجلس ورئيس نادى القصة الذى كنت ارتاده وكان الرجل يعرفنى.. وحكيت له ما حدث.. رحمة الله كان يسمع ويبتسم إلى أن أنتهيت فلم يعلق وإنما رفع سماعة التليفون وطلب رقما.. وأنا أسمع ما يقول.. صباح الخير يا محمد.. إيه اللى بتعملوه فى الناس ده يا محمد.. معقولة دا يحصل وانت موجود يا محمد.. لا.. لا.. أنا هبعت لك الشخص نفسه تسمع منه..
كان السيد اللواء محمد السباعى مديرا لأمن القاهرة وهو شقيق الأستاذ يوسف.. واستقبلنى الرجل بترحاب شديد.. وحكيت وتأثر الرجل وقال: اللى حصل دا فى شى أنا سواء معاك أو غيرك.. فرضنا إنك ما تعرفش يوسف.. أنا كنت هعرف إزاى..!؟
وفى المساء وفى حوش قسم السيدة زينب كان هناك طابور الخدمة الليلية والذى تحول إلى طابور عرض.. أنا ومأمور القسم نسير جنبا إلى جنب.. والمأمور يهمس لى..
بص كويس وشاور لى على كل واحد ضربك.. لمؤاخذه يعنى..!!
وأخذت أطوف واتفقد الوجوه.. كل من رآنى ضربنى.. والوجوه تكاد تكون متشابهة فى عتمة الظلام وتحت البريهات السوداء وكان من الصعب على أن أحدد.. ولكن الله أراد لى أن أحدد.. كنت أقف أمام الواحد منهم متأملا الوجه فيهمس المذنب من تلقاء نفسه.. والله ما ضربتك.. فأعرف على الفور أنه ضربنى لأن كل من قابلنى منهم ضربنى فى تلك الليلة..
الآن عندما أتذكر أحداثها أتذكر الرجال أصحاب المواقف العظيمة.. والشهامة المطلقة، وأيضا أصحاب الأيدى الغليظة..