عادات وممارسات وطقوس عفا عليها زمنى.. نهاية الأسبوع - جميل مطر - بوابة الشروق
الأربعاء 12 نوفمبر 2025 7:10 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

كمشجع زملكاوي.. برأيك في الأنسب للإدارة الفنية للفريق؟

عادات وممارسات وطقوس عفا عليها زمنى.. نهاية الأسبوع

نشر فى : الثلاثاء 11 نوفمبر 2025 - 6:30 م | آخر تحديث : الثلاثاء 11 نوفمبر 2025 - 6:30 م

 

جرت العادة فى بيوتنا، بيتنا وبيوت خالاتى، أن تقضى الخالات مع أطفالهن نهاية الأسبوع مع جدتنا فى البيت الكبير الكائن بشارع أمير الجيوش الجوانى (مرجوش بالعامية المصرية)، وهو شارع رئيس متفرع من المعز لدين الله الفاطمى من جهة ومن فاروق من الجهة الأخرى. كنت كطفل أتطلع بشغف لنهاية أسبوع أقضيها مع أطفال العائلة، وكلهن من نوع البنات باستثناء خالة واحدة كان لها إلى جانب البنات صبيان فى مثل عمرى ولكنهما كانا يفضلان قضاء نهاية الأسبوع فى بيت كبير آخر، بيت يسكنه كل الأشقاء فى عائلة الدهان، وهؤلاء كانوا ينجبون عديد الذكور.

• • •

الآن، وبعد مرور ثمانية عقود أو أقل قليلا، أستطيع أن أفسر حالة شغفى بقضاء نهايات الأسابيع فى البيت الكبير. أتفهم التأثير على منظومة سلوكياتى فى مراحل لاحقة نتيجة منحى مكانة متميزة بين أطفال، ومراهقى، العائلة الكبيرة لاعتبارى الذكر الوحيد بين عديد الأطفال والمراهقين.

أعترف بجميل هذه المرحلة من العمر، المرحلة التى تدربت خلالها على أصول وواجبات احترام الإناث أطفالا كن أم مراهقات أم زميلات فى الجامعة ومساعدات وزميلات فى العمل أو أم وشقيقتين وزوجة وابنتين فى الحياة. لا يعنى هذا الجميل أننى أنكر فضل الرجال على تربية النشء من الصبية والشباب.

قارنت طوال حياتى بين فضل النساء وفضل الرجال على سلوك الأبناء وقد صاروا رجالًا مسئولين. خلصت من أكثر المقارنات إلى أن شجاعة اتخاذ القرار الصعب عند رجال قدرت مواقفهم تعود فى أغلب الحالات إلى فضل امرأة على رجل تبنته أو ساهمت فى نشأته أو عاشرته أو تولت رعايته. مرة أخرى لا أنكر أو أستهين بفضل الرجال من الآباء والمربين ولكنى منحاز إلى فضل المرأة بحكم التجارب العديدة والمقارنات التى أجريتها.

• • •

بمناسبة الحديث عن نهاية الأسبوع التى تعودنا، أمى وأنا وأختى الصغرى، قضاء أغلبها فى زيارة بيت الجدة لأمى حيث تتواجد أيضا بالصدفة أو الترتيب بقية الخالات مع أطفالهن، أتذكر أنه كان يتعين أحيانا أن أستعد صباح يوم الجمعة للذهاب من بيت جدتى إلى حى سيدنا الحسين، مشيا على الأقدام. كنت قد جاوزت العاشرة وأصبحت أهلا للمشى منفردا فى شارع المعز وعند نهايته، أو لعلها بدايته، أنحرف يمينا فى اتجاه شارع الموسكى وأتوقف على بعد أمتار حيث يقع الفرع الخارجى لمطعم الدهان. أسأل هناك عن الحاج أحمد فلا أجده فهو لا يصل إلا قبل صلاة الجمعة بقليل. أستدير للاتجاه نحو القلب، قلب شارع الموسكى أحد أهم شوارع مصر التجارية والقديمة. أمشى بثقة، الأهل مطمئنون وأنا آمن وأكاد أكون معروفا لدى معظم أصحاب المحلات المطلة على الشارع.

• • •

أمشى حتى أصل إلى زقاق ضيق ولعله لضيقه استحق صفة العطفة. هكذا فكرت وأنا أمشى خطوات معدودة لأصل إلى مدخل وكالة يملكها ويديرها أشقاء ثلاثة على صلة قرابة لوالدي. كنت أحب زيارة المكان. أحبه لأن أصحابه كانوا حريصين على دعوتى مع أهلى لكل عرس ومناسبة دينية يحتفلون بها فى قصرهم الفخم بحى هليوبوليس. أتذكر أمى وهى تنشغل قبل هذه المناسبات بشراء ثياب لنا تناسب مكانة هؤلاء الأقارب وزوارهم من كبار القوم. كانت تحترمهم ولا تفوت مناسبة دينية إلا وساهمت فى الاحتفال بها معهم. فهمت أنهم كانوا فى الوقت نفسه أقارب لأهلها من أيام حارة الوراق. نشأت معهم وفى ظنى أنهم أخوال لها وبشكل ما أعمام أيضا.

• • •

هناك فى الوكالة تعرفت على عديد المندوبين، وبعضهم يهود، يعملون لحساب الوكالة فى الريف، لكل منهم ناحية يختص بالتنقل بين قراها على دواب أو على قدميه يبيع منسوجات الوكالة على اختلاف أنواعها وفى البنادر يتعاقد مع التجار على بيع كميات من قطع الملابس الداخلية. تغلق الوكالة أبوابها عند ظهر يوم الجمعة، وتفتحها فور عودة المصلين من مسجد الحسين وكنت بينهم أمشى برفقة والدى أو أحد أفراد العائلة المالكة للوكالة. نقضى بعض اليوم فى صحبتهم يديرون بكفاءة ملحوظة مشروعا تجاريا متعدد الجنسية. "إن شاء الله تكبر وتاخد الشهادة وتيجى معانا"، جملة ترددت أكثر من مرة خلال زياراتى للوكالة التى لم تتوقف إلا عندما انشغلت أيام الجمعة وأنا طالب بالعمل "نصف وقت" فى المكتبة الأمريكية.

• • •

روتين نهاية الأسبوع لا يكتمل إلا بزيارة أخرى لأحد أعمامى فى موقع تجارته بالعطارين، موقع ورثه عن أبيه وأمه. أتذكره جيدا، ليس فقط لأنه كان كريما فى هدايا نعود بها إلى أمى ولكن أيضا لأنه كان رجلا بالغ الثراء سيما بكل المعايير وجميلًا إن صح وصف رجل بهذه الصفة، جمال أورثه لأكثر أبنائه وبناته. أظن الآن أننى ربما تعرفت عنده فى العطارين على مستويات غير عادية لجمال المرأة المصرية، مستويات تخفيها «الملاية اللف» أحيانًا وتبرزها بقوة أحيانًا أخرى. لم أخف يومًا عن أبى انبهارى بهذه المستويات ونحن نتناول وجبة الغدا قبل العودة إلى منزلنا. غالبا ما كان يرد بابتسامة وهزة رأس وربتة على كتفى.

• • •

كان من طقوس نهاية الأسبوع أن يكون الغداء «كباب ونيفة ومنبار محشى بصل» إما فى أحد محلات الدهان بالحسين، أو بالطلب فى أحد موقعين، وكالة المنسوجات والملبوسات القطنية ومركز التجارة فى العطارين، أو وقد حملناه معنا فى العودة إلى منزلنا فى شارع سامى بحى الحكومة فى لاظوغلى، لينتظر معنا عودة أمى وشقيقتى الأصغر من بيت جدتى فى الجمالية.

• • •

أحب بين الحين والحين إحياء فصل أو آخر من فصول الماضى، عله يكون من الممارسات المفيدة فى تعزيز الذاكرة خشية أن يصيبها وهن مقدر ومكتوب، عله يفيد أيضًا فى تجديد طاقات أنهكتها مصاعب العمر الطويل وتجارب حياة متعددة الأوجه والأنشطة والبشر.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي