حروب المياه بين الواقع والنبوءة - مدحت نافع - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 10:05 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حروب المياه بين الواقع والنبوءة

نشر فى : الإثنين 12 يوليه 2021 - 9:20 م | آخر تحديث : الإثنين 12 يوليه 2021 - 9:20 م
الماء العذب هو المورد الطبيعى الوحيد الذى ليس له بديل. خلال تسعينيات القرن الماضى كانت مخاوف تغير المناخ تتصاعد جنبا إلى جنب مع احتمالات نشوب الحروب والنزاعات المسلحة بسبب نقص المياه.
وقد طور الخبراء عددا من النظريات الداعمة لذلك الطرح، واستعانوا فى ذلك برصد تاريخى حديث لأبرز الصراعات الدولية والداخلية، التى كانت الأنهار متغيرا بارزا فى معادلاتها. الملفت أن غالبية الصراعات المرصودة لم تكن سوى مجموعة من المناوشات، وعدد منها كان محركه الفعلى نزاع حدودى أو توترات سياسية، أما أكثر ما لفت انتباهى فيما تم بحثه، هو حضور إسرائيل كطرف فى معظم الصراعات المسلحة التى اتصلت بالمياه بشكل مباشر خلال القرن الماضى!
يعتقد «ويستنج» (1986) أن المنافسة على موارد المياه العذبة المحدودة سوف تؤدى حتما إلى توترات سياسية شديدة، وربما أدت إلى اندلاع الحروب. بينما يصف جليك (1993) موارد المياه بأنها أهداف عسكرية وسياسية، مستخدما نهرى الأردن والنيل كأمثلة على ذلك. كذلك استعان «ريمانز» (1995) بدراسات حالة من الشرق الأوسط وجنوب آسيا وأمريكا الجنوبية كأمثلة لظهور المياه كسبب لنزاع مسلح.
أما «بوتس» (1997) فقد أكد على أن التاريخ حافل بأمثلة للصراع العنيف على المياه، وذكر أربعة مصادر مياه فى الشرق الأوسط معرضة للخطر بشكل خاص، فى حين استشهد «هومر وديكسون» (1994) بنهر الأردن ونزاعات المياه الأخرى، كى يتوصل إلى استنتاج مفاده أن المورد الذى من المرجح أن يشعل حروب المياه بين الدول هو مياه الأنهار. ومن بين 18 حالة من حالات اختلال المياه التى استعرضها «سامسون وشارير» (1997) تم وصف حالة واحدة فقط على أنها «صراع مسلح»، علما بأن تلك الحالة تمثلت فى نزاع على نهر «سينيبا» بين إكوادور وبيرو، وتبين أن الصراع لا يدور حول ندرة الموارد المائية، بقدر ما كان بسبب موقع الحدود المشتركة.
***
الصراعات التى يكثر الاستدلال بها على نطاق واسع تتمثل فى الحروب العربية ــ الإسرائيلية فيذكر «ويستنج» (1986) نهر الأردن كسبب لحرب 1967، كذلك يستشهد «فالكنمارك» (1986) بما توصل إليه «كولى» (1984) عندما يصف المياه كسبب رئيس لكل من حرب 1967 والغزو الإسرائيلى للبنان عام 1982. أما «مايرز» (1993) فيذكر أن إسرائيل قد بدأت (جزئيا) حرب 1967 لأن العرب كانوا يخططون لتحويل مسار مياه نهر الأردن. المشكلة الأساسية فى تلك النظريات هى الافتقار إلى الأدلة، لأنه بينما كان تبادل إطلاق النار بسبب المياه بين إسرائيل وسوريا يحدث بشكل متقطع بين الأعوام 1951 إلى 1953 ومن 1964 إلى 1966 فإن تحركا عسكريا إسرائيليا بالدبابات والطائرات فى 14 يوليو 1966 قد أوقف بالفعل البناء السورى لمشروع التحويل محل النزاع، وأنهى فعليا التوترات المتعلقة بالمياه بين الدولتين، مع ذلك فقد اندلعت حرب 1967 بعد ما يقرب من عام من هذا التاريخ. كذلك يقدم غزو عام 1982 أدلة أقل على أية علاقة بين صنع القرار الهيدرولوجى والعسكرى، وقد خلص كل من «وولف» و«ليبزسكى» (1995) إلى غياب الرابط بين المياه وبين الحروب العربية الإسرائيلية.
فى مجموعة بيانات سلوكيات الأزمة الدولية ICB التى جمعها «مايكل بريتشر» و«جوناثان ويلكنفيلد» (1997) تم رصد عدد من النزاعات التى اعتبرها الباحثان «أزمات دولية» وفقا للمعايير المعتمدة فى البحث، والتى تتضمن وجود تهديد واضح لقيم وطنية أساسية، مع محدودية الوقت المتاح لاتخاذ قرار بشأن النزاع، وتصاعد احتمالات نشوب عمل عدائى مسلح. من هذه المجموعة تم تصنيف 412 أزمة دولية خلال الفترة الممتدة بين عامى 1918 و1994. من هذه المجموعة الكبيرة من الأزمات استخلص أحد الباحثين أربعة فقط تتصل بالمياه، أضيفت إليها ثلاث أزمات أخرى فى بحث أجرى بجامعة ألاباما الأمريكية. الأزمات السبع المستخلصة هى:
• أزمة حوض نهر السند والتى نشبت بين الهند وباكستان عام 1948، وذلك بسبب مياه الرى فى إقليم كشمير المتنازع عليه بين البلدين. وقد استغرق حسم النزاع 12 عاما من المفاوضات تحت رعاية البنك الدولى، تم بعدها التوصل إلى اتفاقية نهر السند عام 1960.
• تبادل إطلاق النار بين سوريا وإسرائيل بين فبراير 1951 وسبتمبر 1953 بسبب أعمال دولة الاحتلال فى حوض بحيرة الحولة الواقعة فى المنطقة منزوعة السلاح بين البلدين.
• التحرك العسكرى المصرى فى السودان بين يناير وإبريل 1958 أثناء مفاوضات نهر النيل العالقة والاعتراض على الانتخابات العامة فى السودان والنزاع على حلايب. وقد انتهت التوترات بانتخاب حكومة سودانية متفاهمة مع مصر، ثم بتوقيع اتفاقية تقاسم مياه النيل فى نوفمبر عام 1959 والتى جاءت مكملة لاتفاقية عام 1929 وليست لاغية لها، حيث تشمل الضبط الكامل لمياه النيل الواصلة لكل من مصر والسودان فى ظل المتغيرات الجديدة التى ظهرت على الساحة آنذاك، ومنها الرغبة فى إنشاء السد العالى، ومشروعات أعالى النيل لإحكام تنظيم إيراد النهر.
• النزاع فى إقليم صحراء أوجادين بين إثيوبيا والصومال بين يونيو 1963 ومارس 1964 والذى امتد منذ وضع موانع بين البلدين عام 1948 على خلفية مناوشات حدودية، أدت إلى ترك جانب من البدو الصوماليين تحت حكم الحبشة. ويضم الإقليم موارد مائية هامة، فضلا عن الموارد النفطية التى لا يجهلها طرفا النزاع. وقد لقى بضع مئات مصرعهم فى تلك الأزمة، حتى تم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار.
• تبادل إطلاق النار بين سوريا وإسرائيل بين مارس 1965 ويوليو 1966 على خلفية مخطط عربى لتحويل مجرى نهر الأردن بما اعتبرته إسرائيل خطرا يتهدد مصالحها المائية. وقد توقفت الأعمال العسكرية فى يوليو عام 1966 مع توقف الجانب السورى عن أعمال تحويل المجرى.
• تصاعد التوترات بين العراق وسوريا بين أبريل وأغسطس عام 1975 بسبب تراجع منسوب نهر الفرات إلى مستوى غير مقبول من الجانب العراقى على خلفية أعمال ملء السدود فى أعالى النهر. الأمر الذى ترتب عليه اللجوء إلى جامعة الدول العربية، لتدفع سوريا بأنها تتلقى داخل حدودها أقل من نصف التدفق المعتاد من مياه النهر، وتخفق مساعى اللجنة الفنية المشكلة من قبل الجامعة فى التوصل إلى حل، فتغلق سوريا مجالها الجوى أمام الطيران العراقى، وتتحرك القوات من الطرفين على الحدود حتى تنجح الوساطة السعودية فى تهدئة الموقف.
• النزاع بين السنغال وموريتانيا خلال الفترة من إبريل 1989 ويوليو 1991 حول الحقوق المائية فى نهر السنغال. المعارك نشبت بين مدنيين من الطرفين ولقى المئات من الفلاحين المقيمين فى القرى الحدودية مصرعهم، حتى تدخلت القوات المسلحة فى البلدين لاستعادة النظام، وعادت العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين فى عام 1991.
***
فى المقابل يحكم تنظيم وتقسيم المياه ما يزيد على 3600 معاهدة واتفاقية (149 منها تم توقيعه فى القرن العشرين وحده) الأمر الذى يبرز أهمية الحلول السلمية فى التعامل مع الأزمات المائية. كذلك فإن الصراعات الدولية العنيفة المحدودة التى نشبت بسبب المياه العذبة لم تحسم بالحلول العسكرية، وإن كانت الأدوات العسكرية قد ساهمت فى تحريك عدد منها، وحفز المجتمع الدولى للوساطة لسرعة إنهائها.
أما فيما يتعلق باحتمالات تطور الوضع المحتقن فى حوض النيل بين دولتى المصب من جهة ودولة إثيوبيا، فإنه لا يخفى على أحد أن الأخيرة (وهى دولة المنبع للنيل الأزرق الذى يغذى نحو 86% من المياه التى تجرى فى نهر النيل) لا تتحمس لاتفاقيتى 1929 و1959، ولكن الطابع الدولى لنهر النيل، وحدود العلاقة بين دول المنبع ودول المصب، واتفاقية أديس أبابا... تحتم جميعا على أثيوبيا احترام حق مصر والسودان فى حصة المياه المعتادة، وانتظامها وعدم التأثير فى منسوبها... إلى غير ذلك من التزامات منطقية عادلة التزمت بها القوى العظمى المنتصرة فى الحروب الكبرى تجاه مصر وشعبها، حينما كانت السيادة المصرية منقوصة نسبيا، فليس أقل من أن تحافظ مصر (كاملة السيادة والتأثير) على حقها تجاه دول المنبع على اختلاف أهميتها ومكانتها الدولية والإقليمية! ومهما كانت الدول التى تقف وراءها لتغذية صراع المياه المؤجل بين دول أفريقيا التى تعانى الجفاف والفقر المائى.
التاريخ والجغرافيا يعلماننا أن مصر هبة النيل، وأن صراع المصالح (التجارية فى الأساس) قد حرك دول أوروبا للتناحر على النفوذ فى حوض النيل، كما أن مصر لم تفرط يوما فى حقوقها المائية، ولو قادت فى سبيل ذلك معارك سياسية عنيفة ضد بريطانيا العظمى نفسها، ومعارك حربية أخرى كان من أهدافها تأمين الحدود الجنوبية وانتظام الملاحة فى النيل.
تم الاستعانة فى هذا المقال بالفصل الثامن عشر من العدد 65 لسلسلة إصدارات المعهد العلمى الرفيع للناتو بعنوان «Environmental change، adaptation and security» الصادر عام 1999.
مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات