هذا الجيل المحظوظ من الاقتصاديين - جلال أمين - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 11:07 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

هذا الجيل المحظوظ من الاقتصاديين

نشر فى : السبت 12 أكتوبر 2013 - 8:55 ص | آخر تحديث : السبت 12 أكتوبر 2013 - 8:55 ص

إنى أنتمى إلى جيل من الاقتصاديين المصريين، قديم بلا شك ولكنى أعتبره أيضا جيلا محظوظا. وسوف أشرح للقارئ لماذا أعتبره جيلا محظوظا، إذ إن لهذا علاقة وثيقة بما تمرّ به مصر الآن من مشكلات اقتصادية، وبطريقة الخروج منها.

لقد بدأت دراستى للاقتصاد فى وقت (1952) كان فيه موضوع «التنمية الاقتصادية» موضوعا جديدا تماما. ثم ذهبت فى بعثة لإنجلترا لاستكمال دراسة الاقتصاد فى وقت كانت نظريات التنمية السائدة فيه نظريات متفائلة جدا بمستقبل بلاد مثل بلادنا (رغم انها كانت تسمى بلادا متخلفة). كان هذا فى أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن الماضى، أى منذ أكثر من خمسين عاما. وعندما أتذكر الآن تلك الأيام، واستعيد فى ذهنى النظريات وسياسات التنمية التى كنا نقرأ عنها ويشرحها أساتذتنا فى المحاضرات، أقول لنفسى: «كم كنت (أنا وجيلى) سعداء الحظ إذ عشنا تلك الأيام، ودرسنا تلك النظريات، قبل ان يكفهر الجو ابتداء من السبعينيات، وتثار الشكوك حول كل ما سبق لنا دراسته، بل ويكثر التهكم والسخرية من كثير منها، ويسود مناخ من التشاؤم بمستقبل بلادنا، إلى درجة قد تصل إلى اليأس من تحقيق التنمية أصلا.

هل كان أساتذة التنمية مخطئين حقا إلى هذه الدرجة؟ وهل كانت كتب ومقالات التنمية خادعة ومضللة على النحو الذى وصفت به فيما بعد؟ لا اعتقد ذلك بالمرة. كل ما فى الأمر أن العالم فى تلك الأيام كان أجمل، وكتاب التنمية والمشتغلين بها كانوا أكثر تعاطفا معنا وأكثر استقلالا وصدقا.

فى ذلك الوقت (أى فى الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين) كان الموقف السائد فى كتابات التنمية أن ذلك العالم الفقير (المسمى بالمتخلف أو العالم الثالث) يحتاج إلى نظريات وسياسات للتنمية، تختلف عن تلك التى ابتدعها العالم المتقدم لوصف شروط وسياسات التنمية فى العالم المتقدم نفسه. كان الرأى السائد أن ظروف التنمية مختلفة جدا فى الحالين، وأهم أوجه الاختلاف خضوع ذلك العالم الفقير لقرن (على الأقل) من الاستعمار والسيطرة الأجنبية، وهو ما لم تخضع له الدول الأكثر تقدما، ومن ثم فهناك حاجة إلى اكتشاف نظريات جديدة لهذا الجزء من العالم سيئ الحظ.

ترتب على هذا اعتراف، كاد يكون اعترافا عاما، بما فى ذلك موقف الهيئات الدولية بنفسها المعنية بالتنمية، كالبنك الدولى وصندوق النقد، بأن للدولة دورا مهما يجب ان تقوم به فى البلاد الفقيرة، التى تتطلع إلى تنمية سريعة، تعوض بها ما فاتها، حتى إذا كان من المرغوب فيه، فى البلاد المتقدمة، ان يبقى دور الدولة هامشيا. كذلك كان هناك اعتراف عام بضرورة التخطيط، بل وبدرجة أو أخرى من التخطيط المركزى والشامل، وليس مجرد تخطيط جزئى (أو ما يسمى بالتأشيرى الذى يقتصر على إجراءات تحفز نشاط القطاع الخاص).

كانت هناك أيضا درجة عالية من الطموح، ليس فقط لدى قادة العالم الثالث، بل ولدى كتاب التنمية ومنظريها. كانت هناك مثلا نظريات تسمى بنظرية «الدفعة القوية»، التى لا تقتنع باتخاذ خطوات صغيرة، ونظرية «النمو المتوازنة»، التى تبين خطورة التركيز على قطاع دون آخر، بل تدعو إلى العمل فى كل القطاعات الاقتصادية فى الوقت نفسه، بل وكان هناك (وياللغرابة) تأييد بل وحماسة لتحقيق تعاون (أو حتى اندماج) بين مجموعة من الدول الفقيرة، فى وحدة اقتصادية تكفل لها جميعا التنمية السريعة.

•••

مع انتصاف السبعينيات بدأ التهكم على هذا كله. نظريات جديدة للتنمية؟ وما حاجتنا إليها بالضبط؟ لماذا لا تفعل تلك البلاد المتخلفة (التى سموها الآن بالنامية) مثلما فعلنا نحن بالضبط فى الماضي. النظريات الاقتصادية واحدة، وما ثبتت صحته منها فى البلاد المتقدمة لابد ان يكون صحيحا أيضا للدول الأقل تقدما (هكذا قالوا). دور كبير للحكومة فى الاقتصاد؟ إن الحكومة أسوأ منتج وأسوأ مستثمر وأسوأ مدير. وهذا صحيح (هكذا قالوا) سواء كنا فى أوائل مراحل التنمية أو آخرها. اما تجارب أوروبا وأمريكا نفسها، التى لم تنجح إلا بسبب تدخل الدولة فى بداية عهدها بالنمو، فقد نسيت تماما. أصبح النبى الملهم للسياسة الاقتصادية هو آدم سميث وحده. مع أن آدم سميث نفسه قال بصراحة إنه فى ظروف بطالة شديدة لابد أن تتدخل الدولة. هذا الجزء من كتاب سميث أهمل تماما، وركزوا على دعوته إلى سحب يد الدولة من الاقتصاد. ناهيك عن السخرية من نظريات الدفعة القوية والنمو المتوازنة. فهذه نظريات تفترض دورا كبيرا للدولة، ومن ثم يجب تفنيدها، وناهيك عن السخرية من الدعوة إلى اندماج مجموعة من الدول الفقيرة، فالأفضل ان تقوى كل منها علاقتها بالدول الأكثر تقدما. نحن نعيش فى عصر العولمة أو القرية العالمية الواحدة (هكذا قيل لنا)، وفى عصر العولمة لا معنى لاندماجات أو تكتلات صغيرة، فالأفضل والأكثر تحقيقا للكفاءة الاقتصادية أن تذوب كل دولة فى العالم ككل.

•••

لم يكن هذا التحول فى الفكر الاقتصادى نتيجة لتفكير أعمق أو لاكتشاف ما لم يكن معروفا من قبل، بل كان فقط نتيجة لتغير ظروف العالم. وقد كان تغيرا (فى نظرى) إلى الأسوأ فى كثير من الأمور. نعم، لقد قويت بشدة قوى العولمة، واشتدت ثورة الاتصالات والمعلومات، وكانت الأداة الأساسية التى تحققت من خلالها هذه العولمة وهذه الثورة، هى الشركات الدولية العملاقة، أو ما يسمى بالشركات متعددة الجنسيات. ولكن هذه التطورات لم تجلب التنمية إلا لعدد محدود جدا من الدول، أهمها الصين وكوريا الجنوبية، تلتها الهند، ولم تحقق معظم الدول الفقيرة الأخرى من وراء هذه العولمة ونمو تلك الشركات، إلا نوعا بائسا من النمو، أقرب إلى ما حدث فى ظل الاستعمار القديم:

اقتصاد معوج ومشوه، وتفاوت فظيع فى الدخول والثروات، أكبر حتى مما كان فى ظل الاستعمار، وثقافة تابعة وذليلة. بل حتى تلك الدول التى حققت تنمية سريعة بسبب العولمة، كالصين وكوريا والهند، تثور بشأنها شكوك قوية حول ما إذا كان ما حققته هو فعلا ما كان يتمنى أهلها وزعماؤها منذ خمسين عاما. ما الذى كان يمكن مثلا ان يقول زعيم مثل نهرو (ولا أقول غاندى) إذا رأى ما يحدث فى الهند اليوم؟ وما الذى كان يمكن ان يقوله شوين لاى (ولا أقول ماوتسى تونج) عما يحدث الآن فى الصين؟ تنمية، نعم. ناطحات سحاب، نعم. زيادة رائعة فى الصادرات واحتياطات العملات الأجنبية، نعم. ولكن هل كان هذا هو المطلوب بالضبط منذ خمسين أو ستين عاما، أم كان مجرد وسائل لتحقيق شىء أفضل وأعظم؟

•••

كانت ثورة 25 يناير 2011 فى مصر، فى نظرى، تعبيرا عن رغبة المصريين فى تحقيق «شىء أفضل وأعظم». لم يكن الخبز فقط هو الهدف بل كان المطلوب أيضا حرية وكرامة إنسانية، بعد ثلاثين عاما على الأقل من الفشل فى تحقيق أى من هذه الأهداف، بما فيها الخبز. وعندما أفكر فيما يجب عمله الآن لتحقيق ذلك، يعود ذهنى إلى تلك الأيام الجميلة منذ خمسين عاما، عندما كان رواد التنمية العظام يقولون لنا، وبحق، إننا نحتاج إلى أشياء مختلفة عما تحتاجة الدول الأكثر ثراء: إلى دور أكبر للدولة، ودور أكبر للتخطيط، وإلى «دفعة قوية» و«تنمية متوازنة»، وإلى تعاون أكبر بكثير مع الدول الأقرب إلينا فى مرحلة النمو. فلزم التنويه.

جلال أمين كاتب ومفكر مصري كبير ، وأستاذ مادة الاقتصاد في الجامعة الأمريكية ، من أشهر مؤلفاته : شخصيات لها تاريخ - ماذا حدث للمصريين؟ - عصر التشهير بالعرب والمسلمين - عولمة القهر : الولايات المتحدة والعرب والمسلمون قبل وبعد أحداث سبتمبر.
التعليقات