«جسور المعرفة».. حلم طه حسين الكبير - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الأربعاء 8 مايو 2024 9:10 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«جسور المعرفة».. حلم طه حسين الكبير

نشر فى : السبت 12 نوفمبر 2022 - 8:45 م | آخر تحديث : السبت 12 نوفمبر 2022 - 8:45 م

ــ 1 ــ
منذ سنوات طويلة تخايلنى الرغبة فى الكتابة عن تاريخ مؤسسات علمية وصروح ثقافية قدِّر لها أن تلعب أهم وأجرأ الأدوار فى حياتنا الثقافية والأدبية والفكرية فى القرن العشرين. خذ عندك: لجنة التأليف والترجمة والنشر، لجنة النشر للجامعيين، المجمع العلمى المصرى، مجمع اللغة العربية العريق، جامعة القاهرة، الجمعية الجغرافية المصرية (أو الجمعية الجغرافية الملكية)، سلسلة الألف كتاب الأولى.. إلخ.
لقد عرفت مصر مبكرًا الإصدار الصحافى والثقافى المتخصص فى الأدب والسياسة والشأن العام، وكل صنوف وألوان المعرفة الإنسانية والعلمية.. تاريخ مصر فى الصحافة الثقافية والمجلات الثقافية المتخصصة لم يكتب بعد على أكمل وجه، ولم تسجل تفاصيله وترصد أدواره وتأثيراته وما ترتب من آثار مروعة على اندثارها!
صحيح أن هناك محاولات وأعمالا رصينة حاولت أن ترصد جانبا أو أكثر أو تؤرخ لصحيفة أو مجلة لكنها فى النهاية لم تجتمع بعد فى عمل مرجعى تاريخى كبير يغطى كل ما ظهر فى مصر من صحف ومجلات ودوريات وإصدارات فى الفترة من الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وحتى سنة 1970 (تاريخ وفاة عبدالناصر).
ــ 2 ــ
هذه مسألة، ومسألة أخرى هى تتبع تاريخ المجلات الدورية المحكمة والمتخصصة؛ مثل (مجلة كلية الآداب) التى تصدر عن جامعة القاهرة أو الإسكندرية، على سبيل المثال، أو مجلة أو (صحيفة المعهد المصرى للدراسات الإسلامية بمدريد)، والتى صدر العدد الأول منها فى خمسينيات القرن الماضى، وتوالت أعدادها طيلة ما يزيد على نصف قرن شكل كل عدد منها ما يشبه «الكنز المعرفى» بدراسةٍ أو أكثر أو ترجمةٍ أو أكثر أو صفحاتٍ سوِّدَت بالعربية والإسبانية فى موضوع من موضوعات الدرس الثقافى والحضارى والصلات المتبادلة بين العرب وإسبانيا.
ولو أفضنا فى الحديث المفصل عن الدور الذى لعبته هذه المجلة الرائعة فى إطار أنشطة وفعاليات المعهد المصرى للدراسات الإسلامية، باعتبارها نقطة وصل وتواصل بين المشتغلين بالدراسات العربية والإسلامية من الإسبان والإسبانية من العرب لأفضنا واحتجنا إلى حلقات وحلقات. لقد راكمت هذه المجلة العظيمة تراثا ثريا غائر الأعماق من الإبداع والدرس والبحث فى ثمار واحدة من أهم الحضارات التى ورثتها البشرية، وهى الحضارة العربية الإسلامية بإسبانيا.

ــ 3 ــ
ويجرنا الحديث عن هذه المجلة بالضرورة كثمرة زاهرة وناضجة من ثمار المنشأة التى كانت تصدر عنها، وفى إطار نشاطها العام، وأقصد هنا منارتنا الثقافية والحضارية التى لم نشهد لها مثيلًا حتى وقتنا هذا، وأقصد هنا «المعهد المصرى للدراسات الإسلامية بمدريد» الذى افتتح رسميا فى 11 نوفمبر من العام 1950، وقد افتتحه آنذاك وزير المعارف العمومية الدكتور العميد طه حسين منشئه ومؤسسه، وصاحب الفضل فى ظهوره للنور، وقد كان مؤسسا عظيما للمؤسسات الثقافية المعنوية منها والبشرية على السواء.
وهذا الدور، دور رجل الدولة وصانع المؤسسات وواضع السياسات ومنتج الرؤى، دور من أدوار طه حسين التى لم تلق ما تستحقه من كشف وتسليط للضوء، على كثرة ما كتب وسوِّد عن طه حسين من صفحات بل مجلدات! ومن يتتبع تفاصيل هذه التجربة الحضارية المذهلة سيجد قصة بل مروية تكتب بحروف من نور وتنقش وتحفر فى الوجدان والجدران بكلمات من ذهب.
وسنحاول فى هذا المقال وبعض المقالات التالية أن نتتبع تفاصيل هذه القصة المثيرة وهذه المروية التى تبعث على الفخر والتأمل وتجعلنا نسعى بكل ما أوتينا من جهد وتدبر إلى إحياء مثل هذه التجربة وتعميمها والعمل على نشرها بكل الطرق والوسائل فى سبيل دفع عملية النهوض وتجاوز التحديات التى تجابهنا منذ سنوات طويلة.
ــ 4 ــ
من اللافت جدًّا لكل من يتأمل سيرة طه حسين، وتفاصيلها الثرية، وخاصة فى أربعينيات وخمسينيات القرن الماضى، وقد كان فيهما فى مرحلة النضج الكامل؛ وقد تجاوز الخمسين من عمره؛ لكنه كان فى كامل لياقته الذهنية، وتألق قدراته الإدارية والعلمية، تنامى الحلم بإنشاء جسورٍ للثقافة والمعرفة تربط مصر ــ بوصفها مركزًا من مراكز الثقافة العربية الكبرى ــ بغيرها من المراكز الثقافية فى العالم أجمع؛ كانت غايته نشر المعرفة والثقافة العربية والإسلامية فى جميع أنحاء العالم، وفى المقابل الإفادة من مكتسبات وإضافات وإنجازات أبناء الثقافات الأخرى.
شهد هذان العقدان ذورة عمل طه حسين فى العمل الأكاديمى والجامعى وإنشاء المؤسسات الثقافية الكبرى وإدراتها فضلا على مسئوليات الوزارة التى تولاها فى حكومة الوفد الأخيرة برئاسة النحاس باشا (1950ــ1952).
وكان من ثمار هذه المرحلة النشطة فى تاريخ مصر الثقافى، وتاريخ طه حسين، تأسيس المعهد المصرى للدراسات الإسلامية والعربية بمدريد، عاصمة إسبانيا، وهو واحد من أحلام طه حسين الكبرى بعقد أواصر الصلة والاتصال بين مصر وغيرها من أبناء الثقافات الأخرى فى واحدة من أرقى أشكال المثاقفة والتفاعل الفكرى والحضارى الإنسانى.

ــ 5 ــ
نشأت فكرة هذا المعهد لدى طه حسين وفق استراتيجية معينة ورؤية حضارية وثقافية شاملة فيما يتصل بالبعد القومى العروبى، ‏ مفادها ضرورة إنشاء معاهد ومدارس ومراكز للغة والثقافة العربية والدراسات الإسلامية خارج حدود مصر‏، ‏مبررًا ذلك بأن اللغة العربية مهددة فى المغرب العربى (فى تلك الفترة كانت دول المغرب العربى كله ترزح تحت نير الاحتلال الفرنسى والاستعمار الأوروبى) وأن من واجب مصر أن تعين أهل المغرب فى جهادهم ضد الاستعمار الفرنسيى، للمحافظة على لغتهم وثقافتهم العربية‏، ‏وكذلك يجب على مصر أن تنشئ معاهد عربية إسلامية فى الأوطان الناطقة بغير العربية.
وقد تكللت جهود طه حسين بالنجاح فى إنشاء معهدين: الأول المعهد العربى بالمغرب، وهذا يحتاج إلى حديث آخر مفصل. والثانى، المعهد المصرى للدراسات الإسلامية بمدريد، وهو الذى سنتناول قصة إنشائه وأمجاده فى الأسابيع القادمة بمشيئة الله..