فى مؤتمر وارسو، الذى ترعاه الولايات المتحدة، لإحكام الحصار الاقتصادى والسياسى على إيران وتسويق «صفقة القرن» باسم «تعزيز الأمن والسلام فى الشرق الأوسط» كل أسباب الفشل المسبق.
قدر التناقضات لا يوفر أية مقومات شبه متماسكة لتأسيس حلف جديد يحمل اسم العاصمة البولندية وارسو.
يستلفت الانتباه – أولا ــ حجم التحفظ الأوروبى، المعلن وغير المعلن، على فكرة المؤتمر نفسها بالنظر إلى الخلافات المعلنة مع الإدارة الأمريكية بشأن إدارة الأزمة مع إيران، كما على اختيار بولندا مقرا لاجتماعاته بدواعى التوجس من أن يكون الهدف شق صفوف الاتحاد الأوروبى وإفقاد سياسته الخارجية قدرتها على التوحد.
هناك استثمار سياسى أمريكى فى الحكومات اليمينية الشعبوية بشرق أوروبا، والمؤتمر بمكان انعقاده تعبير عن نوع من الصراع المفتوح مع المراكز الأوروبية الكبرى.
يستلفت الانتباه – ثانيا – حجم التنازع مع موسكو، التى اعترضت على المؤتمر وغابت عنه على خلفية أهدافه المعلنة.
عند النظر فى أية ترتيبات محتملة لأوضاع الشرق الأوسط لا يمكن تجاهل اللاعب الروسى، فهو حاضر ومتداخل ومنسوب دوره يتزايد فى أكثر من ملف إقليمى مشتعل.
مما له دلالة رمزية على حجم ذلك التنازع انعقاد قمة روسية تركية إيرانية تبحث ضمن جدول أعمالها ترتيبات ما بعد الانسحاب الأمريكى المزمع من سوريا بالتزامن مع مؤتمر وارسو.
التزامن – بذاته – يعكس الحسابات المعقدة فى موازين القوى الإقليمية.
التصعيد الأمريكى مع إيران فيه إدراك بعدم كفاية العقوبات المفروضة عليها لتحجيم أدوارها الإقليمية.
من أكثر التعبيرات تداولا بأجواء المؤتمر وما قبله «ضبط إيران»، وهو يعنى فى أية جملة مفيدة «وفق ما تطلبه إسرائيل».
ما هو مطلوب: وقف المشروع الصاروخى الباليستى الإيرانى وتحجيم نفوذها الإقليمى.
المشكلة فى العالم العربى أنه لا يوجه تنبه كاف للفارق بين ما هو طبيعى ومصطنع فى الإقليم، فإيران دولة طبيعية فيه ومن ركائزه الكبرى كمصر وتركيا فيما إسرائيل دولة عنصرية مصطنعة نشأت فى قلبه لمنع توحده.
أن تتحول إيران أيا كانت الانتقادات إلى عدو وإسرائيل أيا كانت الإغواءات إلى حليف معناه أن الجهاز العصبى للنظم العربية اختل على نحو ينذر بكوارث جديدة مقبلة.
يستلفت الانتباه – ثالثا ــ توقيت انعقاد مؤتمر وارسو بالتزامن مع ذكرى مرور أربعين عاما على الثورة الإيرانية، كأنه المقصود الإيحاء أن تلك السنوات تكفى.
كان عام (1979) مفعما بالتحولات الحادة، فى توقيت واحد وقع الرئيس الأسبق «أنور السادات» معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية التى أذنت بالخروج المنفرد من الصراع العربى الإسرائيلى فيما كانت إيران تسقط حكم الشاه الحليف الأول لإسرائيل فى الإقليم وتتبنى خطابا جديدا مفارقا.
أفلتت فرصة تاريخية فى بناء أوسع تحالف إقليمى ضد الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية وكانت التداعيات كارثية.
من مستهدفات مؤتمر وارسو المضمرة قطع الطريق على أى ظروف تسمح بتكرار هذه الفرصة التى أفلتت.
ويستلفت الانتباه – رابعا – الغياب الفلسطينى عن مؤتمر وارسو والحضور الإسرائيلى فيه.
فى أية صفقة تنسب للسلام يفترض أن تكون هناك تفاهمات بشأن قواعد اللعبة، وإلا فإنها تتحول إلى عقد إذعان، أو تسوية تفرض بقوة الوعيد والتهديد.
الغياب الفلسطينى أسبابه معلنة، وقد ذهبت إلى وصف مؤتمر وارسو بـ«المؤامرة الأمريكية لتصفية القضية الفلسطينية».
تأسس الغياب على قطع الاتصالات السياسية مع الإدارة الأمريكية إثر اعترافها بالقدس عاصمة لإسرائيل فى ديسمبر (2017) وما كشفته التسريبات الإسرائيلية عن طبيعة «صفقة القرن».
من بين ما تسرب ضم الكتل الاستيطانية فى الضفة الغربية للدولة العبرية وشطب حقوق اللاجئين للأبد وإحالة القضية الفلسطينية إلى محض أزمة إنسانية تتطلب خططا اقتصادية تخفف المعاناة فى قطاع غزة ببعض المساعدات والمشروعات بما يعنى إفقادها جوهرها الوطنى لشعب تحت الاحتلال.
ومن بين ما تسرب مشروع «غزة الكبرى»، الذى بمقتضاه يعزل القطاع عن الضفة الغربية وتنقطع صلته بالقضية الفلسطينية، على حساب أراض مصرية فى سيناء كوطن بديل، وهو طلب متعذر فى بلد حارب طوال تاريخه من أجل تأكيد مصريتها كما من المتعذر تمريره فلسطينيا.
لا شىء فى وارسو يدفع فلسطينى واحد للرهان على مؤتمره.
بقدر آخر فإن الحضور الإسرائيلى، وسط عدد من وزراء الخارجية العرب أغلبهم لا تربطه بالدولة العبرية علاقات دبلوماسية، مكسب لا يستهان به لحكومة «بنيامين نتنياهو» قبل الانتخابات الإسرائيلية فى إبريل المقبل وخطوة غير مسبوقة فى مستويات التطبيع دون أدنى التزام بالمبادرة العربية للسلام التى ترهن التطبيع الكامل بالانسحاب الشامل من الأراضى العربية المحتلة منذ عام (1967).
نحن أمام حالة موت سريرى لاتفاقية «أوسلو» وللمبادرة العربية للسلام معا دون أن يجرؤ أحد، لا فى السلطة الفلسطينية ولا النظم العربية على إعلان الحقيقة.
ويستلفت الانتباه – خامسا – فى عرض «صفقة القرن» على مؤتمر وارسو تجنب أية إشارة لما يطلق عليه «الشق السياسى»، وحصر الإفادات والمداولات فى «الشق الاقتصادى» – وهذا نوع من الاستخفاف بوزراء الخارجية المشاركين كأنهم يتلقون محاضرات مدرسية فى ضرورة رفع المعاناة عن أهالى غزة تبشيرا بتحسين أحوالهم مع تنفيذ «صفقة القرن» مع تجاهل الحصار، الذى تفرضه الولايات المتحدة على القطاع، الذى وصل ذروته بوقف تمويل وكالة الأمم لغوث اللاجئين الفلسطينيين «الاونروا».
الأكثر إثارة التعويل الأمريكى على تمويل مشروعات صفقة القرن بأموال خليجية.
كما هو مقرر سلفا يقوم أواخر هذا الشهر «جاريد كوشنر» مهندس «صفقة القرن» وصهر الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» بجولة فى المنطقة لهذا الغرض، كأنه مطلوب من العرب تمويل خطة تستهدف ضياع ما تبقى من حقوق عربية فى فلسطين.
ويستلفت الانتباه – سادسا – التوصيفات شبه المتطابقة التى شاعت فى التغطيات والتعليقات الصحفية باتساع العالم فى النظر إلى مؤتمر وارسو باعتباره استدعاء رمزيا لـ«حلف وارسو» فى الاتجاه المضاد.
بعد الحرب العالمية الثانية وانقسام العالم إلى معسكرين متناقضين نشأ حلف «وارسو» عام (1955) بقيادة الاتحاد السوفييتى السابق لمواجهة حلف «الناتو» بقيادة الولايات المتحدة.
العالم اختلف الآن تماما، حلف «وارسو» انهار مع انهيار الاتحاد السوفييتى وحلف «الناتو» اهتزت مقومات وحدته على خلفية مواقف «ترامب» السلبية تجاهه ودعوة الرئيس الفرنسى «إيمانويل ماكرون» بدعم ألمانى لإنشاء جيش أوروبى.
رغم ذلك كله فهناك نزوع أمريكى لا يجد أرضية صلبة يقف عليها لإنشاء حلف «وارسو» جديد، أو «ناتو» عربى يضم إسرائيل إليه لمواجهة إيران من نفس مصادر التمويل.
هكذا يبدو مؤتمر وارسو مرشحا للفشل المسبق بأثر التناقضات فيه وحوله، كأنها ألغام سياسية توشك أن تنفجر.