استيقظت منذ يومين على ذكرى زيارة الفاتيكان بروما منذ عدة سنوات ودخولى أحد أشهر الكنائس فى التاريخ، وهى كنيسة سيستينا أو بالإيطالية Cappella Sistina والموجودة بالقصر الباباوى، الذى يعتبر المقر الرسمى للبابا فى مدينة الفاتيكان.
أكثر ما يميز تلك الكنيسة الرسوم والنقوش المبهرة والمعمار الفريد الذى رسمه الفنان مايكل أنجلو فى القرن السادس عشر، خصوصًا لوحة خلق آدم على سقف الكنيسة، وهى بالتأكيد من أبرز اللوحات فى العالم. ومع أنى أؤمن تمامًا باتباع القواعد والقوانين ومع علمى التام بأن التصوير ممنوع داخل الكنيسة، لم أستطع إلا اختلاس صورتين بالعدد لهذه العظمة، حتى أتى أحد الحراس ومنعنى، لكنه كان من اللطف، بحيث تركنى بالصورتين ومضى إلى حال سبيله.
سيطرت علىّ تلك الذكرى فى الصباح وأنا ألعن نفسى بأنى لم أكن يومًا جيدة فى حفظ الصور ــ أى صور ــ وأخذت وقتًا حتى تذكرت أنى قمت بتحميل هاتين الصورتين على أحد مواقع سوشيال ميديا فى الماضى ــ منذ نحو عشر سنوات. وبظروف السفر حاليًا وصعوبة تدبير العملة والتعويم وقيمة الجنيه الحالية.. إلخ.. إلخ، قررت أن أبحث بجدية لأن من الوارد جدًا ألا أستطيع الذهاب مرة أخرى إلى هناك حتى مع عشقى الدائم للسفر.
استغرقتنى الرحلة فى البحث عن الصور ساعتين من الزمان، وما أعظم دهشتى لما وجدت!
• • •
بالتأكيد شعرت بأنى كبرت فى السن والخبرة والنضوج واضحين فى نظرة العين. لكن ما هالنى أكثر عدد الأشخاص والأصدقاء، الذين كنت أعرفهم معرفة وثيقة وأتصور معهم بحميمية شديدة، ولم أعد أراهم حاليًا. وباستثناء شخص أو شخصين رأيت منهم الأذى فوجب الابتعاد عنهم، معظم الباقى اختفوا بهدوء فى زحمة الحياة، ولا أكن لهم إلا كل مشاعر طيبة.
منهم من تطور أو نضج بطريقة مختلفة فلم يعد هناك الكثير من الصفات المشتركة بيننا حتى يمكننا الاستمرار فى التواصل. وآخرون سافروا أو انشغلوا أو منعت علاقات جديدة الوقت الكافى لرؤياهم. وهناك من أظهرت السوشيال ميديا وتطورها أفكاره بطريقة تتصادم بشكل ما مع ما أؤمن به، بالطبع للكل حرية الرأى والتعبير، لكن لا نستطيع إنكار أن المرء على دين خليله، ويتآلف أكثر مع من يشبهه فى الأفكار والمبادئ، وقد ظهر ذلك بصورة جلية فى أعقاب الثورة.
• • •
كنا دائمًا نقول على العلاقات الشخصية إن لها عمرًا افتراضيًا، قد لا نلاحظ انتهاءه حتى مع الكثير من الاهتمام ليبقى ويزدهرــ فيكون للزمن رأى آخر. وذكرنى ذلك بمقولة أخرى بأن طبع الإنسان لا يتغير، وهى مقولة خاطئة تمامًا، والصحيح منها أنك لا تستطيع تغيير أحد لكن الحياة بتجاربها والسنين بمعاركها من المؤكد أن تفعل ذلك بدلًا منك. ويعتبر محظوظًا من يستمر فى دائرة معارفه؛ أصدقاء الطفولة أو الشباب، حتى وإن كان قليلًا، فمن الرائع أن يراك من يحبك بصدق بعدة إصدارات جديدة لشخصيتك ويحبك ويساندك فى كل منهم.
وكذا فى علاقات الحب، يبدأ المتحابان بالوعود الأبدية بالبقاء وعدم المفارقة، لكن أظن أن إحصاءات الطلاق سواء الفعلى أو الشكلى تكذب ذلك، ويجب أن يعى الإنسان أن أى علاقة هشة، ليس فقط إذا لم يتم الاهتمام بها، بل الأهم إذا لم تتوافر الظروف المواتية لها، ولا يعتبر ذلك عيبًا فى أحد الأطراف إذا كان سويًا نوعًا ما. فمثلًا كان لى صديقة جميلة أيام دراستى بالجامعة أحبت زميلًا لنا طوال مدة الدراسة ومنذ أول يوم، ولم يكونا يفترقان. انتهت سنون الجامعة وانتظرا ثلاث سنوات أخرى حتى تزوجا، أى كان مجموع سنين حبهما سبع سنوات. هل تعلم عزيزى القارئ/عزيزتى القارئة كم كانت مدة زواجهما؟ شهر رسميًا مع الانفصال بعد أسبوع واحد فقط. قد أستطيع قول الأسباب، لكن لذلك قصة أخرى.
وإذا كان هذان المتحابان آثرا الانفصال السريع، فهناك فى المقابل أعداد غفيرة ممن يستمرون فى مؤسسة الزواج لأسباب مختلفة سواء للأطفال أو المصالح المشتركة أو حتى العشرة الطيبة، لكن بالنظر المجرد ستلاحظ أنهما شخصان مختلفان تمامًا عن البداية. ولذلك تقوم المجتمعات الغربية بطقس يسمى «تجديد عهود الزواج» أو renewal of vows، وذلك خصيصًا لحقيقة أن المتزوجين الحاليين ليسما هما نفس الشخصين، اللذين تزوجا منذ سنوات، ومن المهم طبقًا لوجهة نظرهما أن تتجدد العهود بين النسختين الحاليتين باختلافهما، بنضجهما، بنظرتهما للحياة.
• • •
من الجميل إحساس المرء بالحب العائلى والعاطفى وبين الأصدقاء لكن ذلك لا يمنع أن من سيبقى مع الإنسان إلى الأبد هو ذاته فقط. تغذيتها بالحب على مر السنين من تلك العلاقات العديدة من المؤكد أنها ستسهم فى إثراء ذاته والحنين إلى الذكريات والإحساس بالرضا أنه قد استثمر فى علاقات سوية وقوية. كما سيسهم التكيف مع عدم استمرار الكثير من العلاقات فى بقاء الإنسان أقوى وأسعد وقابلًا لأى تغيير قد يطرأ. فمقولة البقاء للأقوى ليست الأساس، بل البقاء للمتكيف الذى يستطيع التأقلم مع واقعه وعلاقاته الجديدة وكذلك القديمة التى حالفها الحظ.
ويؤكد البعض أن معظم العلاقات لا تستمر، حيث لا يستطيع الإنسان الاحتفاظ بكل الخيوط فى يده، بمئات بل آلاف المعارف الذين يلتقى بهم على مدى حياته. تخيل لو أنك تعرف جميع من التقيت بهم يوميًا، كم ساعة فى اليوم ستحتاج إلى رعاية تلك العلاقات؟ يكفى سيدتى القارئة/سيدى القارئ أن تتذكرا العديد منها بالحنين ولا يمنع من أن يحالفكما الحظ باتصال أو مقابلة سويا لتتذكرا الشخص الذى كان والذى أصبح. وفى ذلك شعور بالراحة والقوة والامتنان لكونكما جزءًا من تطور الآخر ــ للأحسن كما أتمنى.
وفى النهاية أتمنى للقارئ والقارئة أن يبقيا على علاقاتهما القوية الثرية التى تجعل منهما شخصًا أفضل مع عدم الإحساس بأى غضاضة فى انتهاء، أو دعونى أقول تلاشى بعضها تدريجيًا مع الاحتفاظ بالذكريات الجميلة ومشاعر المودة ودروس تلك العلاقات.
وبالمناسبة لم أجد الصورتين.