الساحر الشمالى - رانيا الرزاز - بوابة الشروق
الأحد 24 سبتمبر 2023 10:19 م القاهرة القاهرة 24°

شارك برأيك

هل تؤيد قرار وزير التربية والتعليم بحظر النقاب في المدارس؟

الساحر الشمالى

نشر فى : الخميس 14 سبتمبر 2023 - 10:40 م | آخر تحديث : الخميس 14 سبتمبر 2023 - 10:40 م
انتهى الصيف رسميا بانطلاقه وإجازاته وشواطئه وودع الجميع الساحل الشمالى بكل جماله وغموضه والأقاويل المختلفة عن رواده. فالبعض يسمع عنه فقط والبعض لا يكاد يذهب إلى مكان غيره إن استطاع إليه سبيلا، وقلة ممن يستطيعون قرروا الاستغناء عنه والذهاب إلى شواطئ أوروبا وأمريكا. وبالرغم من الظن أن النوع الأخير هم من أصحاب المليارات الذين «يعتقدون أن مارينا بيئة» كما وصفها أحد الكتاب الكبار يوما ما، فإن ذلك ليس بالضرورة صحيحا. والدليل ارتفاع أسعار الساحل الشمالى بكل خدماته الأساسية والترفيهية عن مثيلاتها فى معظم دول أوروبا، باستثناء أفخر الأماكن السياحية فى مصايف مثل الريفييرا الفرنسية والتى يرتادها أغنى أغنياء العالم والأثرياء العرب.
●●●
شاء الحظ أن أنتمى لمفضلى السفر للخارج بعد سنوات طويلة من الاستمتاع بالرمال البيضاء والمياه التركوازية للساحل الشمالى الممتد الأطراف. وإن لم يكن لدعوة أبنائى المتكررة لزيارة الساحل لوجود جميع أصدقائهم هناك، لما تكبدت عناء الذهاب إليه أياما معدودة من الأساس. ومن المهم الذكر أن ذلك ليس تماشيا مع «موضة» المصريين فى السفر إلى اليونان وجزرها القريبة من العاصمة كجليفادا فى العامين الماضيين.
●●●
تساءلت بينى وبين نفسى ما السر فى ذلك التغيير؟ ما الذى جعلنى أؤجر بيتى الصغير فى إحدى قرى الساحل الشمالى وأستفيد بالعائد للذهاب لأحد الشواطئ الأوروبية التى تقل فى مستوى جمال مياه البحر ــ وإن لم يكن فى مستوى الجمال العام ــ عن ما تعودت عليه؟ ما الذى جعلنى أبتعد عن أصدقائى الأعزاء وأذهب إلى مكان لا أعرف به أحدا باستثناء عائلتى الصغيرة، وهو ما لا يفضله أبدا أبنائى الذين لا يجدون سعادتهم إلا بالقرب من «شلتهم» الصغيرة والكبيرة.
●●●
أول شىء تبادر إلى ذهنى هو التقدم فى العمر، فما كان يسعدنى فى الماضى من «اللمة» والخروج والسهر تحول إلى ما يشبه العبء على جهازى العصبى. فالبرغم من وجود منافذ كثيرة فى الساحل الشمالى مخصصة لمختلف الطبقات الاجتماعية، إلا أن الدخول للكثير منها يتطلب إما القبول بزحام لا بأس به وانتظار دورك أو الحجز المسبق. هذا الحجز المسبق هو من أشد الأشياء سخافة فى الوقت الحاضر وغير مضمون على الإطلاق. معظم الأماكن تتطلب الاستعلام عنك وتطلب بروفايلك الشخصى على السوشيال ميديا، بل وبروفايلات جميع المرافقين لك. وإن استطاعت لاستعلمت عن حسابك الشخصى فى البنك وإذا ما كان لديك فيزة شنجن سارية أم لا. هذا بخلاف صعوبة الوصول إليهم تليفونيا ويتطلب ذلك تفريغ نصف يومك لكى يرد أحد ما عليك. عذر تلك الأماكن هو عدم دخول أحد لا ينسجم مع مرتاديها للتفاوت الشديد بين الطبقات الاجتماعية فى مصر.
●●●
وفى المقابل معظم الشواطئ فى الخارج عامة، وللمواطن حق استخدامها مجانا وذلك لأن التفاوت الاجتماعى شبه منعدم. فسائق التاكسى الذى تقابله صباحا قد تقابله مساء أيضا وهو يتعشى بجوارك فى أحد المطاعم. وإذا كان هناك ما يستلزم أن تدفعه فهو الشمسية والكراسى المؤجرة وما تستهلكه من طعام وشراب. وقد لاحظت أن معظم سكان المنطقة لا يستخدمون شيئا من ذلك، بل يذهب الجميع بالشماسى الشخصية و«يدقوها فى الرمل» ويأكلون ويشربون مما يحضرون ويقضون اليوم كله مجانا.
●●●
وقد تعجبت من أحد الشواطئ الأوروبية عندما وجدت أنه يتطلب حجزا مسبقا وهو محجوز تماما لآخر الموسم. ومع ذلك اخترت خوض التجربة بنفسى وذهبت للمكان النائى مخاطرة بالرجوع أدراجى خائبة، ففوجئت أنهم سمحوا لى بالدخول ولكن فقط فى المياه وليس على الشاطئ الرملى وذلك لخوف البلدية من تآكل الشاطئ ــ أى أن السبب فى الأساس بيئى وليس انتقائيا كما يحدث عندنا.
●●●
أما ثانى ملاحظة فهى الإنهاك فى أشياء بعيدة كل البعد عن بساطة الشواطئ فى الخارج، فهناك الاستغراق فى أحاديث ونميمة وخلافات خصوصا بين الطبقة الأعلى وفى كل صيف يكون أحدهم هو نجم الصيف بإحدى الفضائح. فأحدهم قرر الزواج مرة ثانية أو ثالثة، وإحداهن سرقت زوج أعز صديقاتها أو سرقت ألماظا فى إحدى الحفلات بالرغم من عدم احتياجها ماديا وكيفية اكتشاف السرقة.. إلخ. والعجيب أن كل هؤلاء يسهرون فى نفس الأماكن ليلا ــ وهى بالمناسبة لا تزيد عن ثلاثة أو أربعة أماكن يطلق عليها الأماكن الـ «إن» أى الأماكن الموضة لهذا الموسم والتى تتميز بحرص شديد على التفاخر بمظاهر الغناء والرقى حتى وإن لم توجد. والعجيب أيضا أنهم فى أماكن السهر تكاد لا تلحظ أن هناك فضيحة إلا فى الهمسات والنميمة عليهم أو إذا فقد أحد الأطراف أعصابه وتحرش أو تحرشت مباشرة بغريمه أو غريمته، عندئذ يتدخل الجميع للتهدئة منعا للإصابات. فإذا كنت جزءا من هذا المجتمع فإياك وأن تكون نجم الموسم.
●●●
وفى المقابل أيضا فشواطئ أوروبا تكاد تخلو من ذلك خصوصا لمن قدم من الشرق فهو لا يعرف أحدا ولا أحد يعرفه ــ وهى ميزة شديدة للبعض. فهناك، الأولوية هى الاستمتاع بالبحر صباحا ثم الاستمتاع بالمطاعم والعشاء مساء والتمشية التى لا تألو على شىء، ولمن لا يزال يريد المزيد، السهر فى إحدى النوادى الليلية وهو ما يخلق لى حالة «نوستالجيا» شديدة. فتلك البساطة تذكرنى بأيام إسكندرية زمان واستمتاعى التام به مع والدى وأصدقائى والتمشية فى وسط البلد مع وجود ناس تجلس على الطرقات ولكنها لا تلقى بالا إليك. لا أحد يعلم ــ ولا يهمه أن يعلم شيئا عنك. أتصور أن هناك مجتمعات شبيهة بتلك التى نعرفها فى الساحل الشمالى فى الخارج، ولكننا لا نختلط بها كزوار وسياح. وبعد يوم خالٍ من الضغوط ينام المرء ملء جفنيه وهى ميزة عظيمة أيضا ــ فالنوادى الليلية لا تبعث أصواتا تكدر على المصطافين ليلهم، بعكس الساحل الشمالى الذى يفتقد لقوانين صارمة فى هذا الصدد وتنبعث منه الموسيقى والضوضاء حتى الأضواء الأولى من النهار. وكما نقول حظا أوفر المرة القادمة لمن ابتلته الأقدار بالسكن بجانب إحدى تلك الأماكن.
●●●
وقد تساءلت كثيرا هل تغيرت طباع أهل الساحل أم تغيرنا نحن؟ هل التقدم بالعمر سمح لنا بتلك الرؤية أم أن سلوك المصطافين أجبر بعضنا على الاستغناء عن ما كنا نستمتع به يوما ما؟ والإجابة أعتقد تكمن فى مزيج من هذا وذاك. فشاطئ العجمى قديما مثلا لم يكن يخلو من النميمة ومظاهر التفاخر ولا أعلم إن امتد ذلك من شواطئ الإسكندرية والمنتزه الأقدم. فالمجتمع المصرى كبير ويشمل كل شىء وكل طبقة، بل بعضه يجبر الدول الأوروبية على تغيير نمطها الصيفى. فموضة سفر المصريين إلى اليونان مثلا دعت المطاعم على تغيير مواعيدها. أحد الأصدقاء ألمح لى أن المطعم الذى كان يقدم الإفطار فى التاسعة صباحا والغداء فى الثانية عشرة ظهرا، أصبح الإفطار يمتد به إلى بعد الواحدة ظهرا وذلك ليتماشى مع عادة المصريين فى الاستيقاظ متأخرا.
وفى النهاية أتمنى صيفا قادما سعيدا للجميع.
رانيا الرزاز باحثة في الشئون الاجتماعية
التعليقات