رسائل الحياة - خالد الخميسي - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 1:49 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

رسائل الحياة

نشر فى : الأحد 14 مارس 2010 - 10:06 ص | آخر تحديث : الأحد 14 مارس 2010 - 10:06 ص

 الأمل الأسمى للإنسان هو أن يرى أبناءه فى أفضل حال، يحملون فى جنباتهم إشراقه الحياة ويقبضون على المثل العليا داخل أرواحهم، وأن تكون المرجعية التى يركنون إليها فى كل ضائقة هى المرجعية الأخلاقية.

يراودنى هذا الأمل فى كل صباح كما يراود غيرى من ملايين البشر، ولكن ما يرمى أملى هذا بالشرر هى رسائل الحياة التى يتلقاها أبنائى كل صباح.

فالتربية ليست بتبنى شعارات جوفاء أو إلقاء خطب عصماء عن علم الأخلاق وليست بالقراءة المتأنية لدروس التربية القومية وليست بالتأكيد بترديد النشيد الوطنى كل صباح فى فناء المدارس ولكن التربية هى محصلة ما يتلقاه الإنسان من رسائل الحياة. فالمحاكاة هى بداية تعلم الإنسان مما يحيطه من أبنية فكرية ولغوية وثقافية، ثم يستمر الإنسان فى تلقى ــ كالرادار ــ كل الموجات التى يستطيع التقاطها ومنها يتشكل وجدانه ونسقه القيمى والأخلاقى.

وما أقسى ما يتلقاه أبنائى اليوم من رسائل من مجتمع تقوضت أركانه الأخلاقية. بالأمس ونحن نصعد على كوبرى أكتوبر من كورنيش العجوزة استوقفنى أمين شرطة وادعى أنه وزملاءه من أمناء الشرطة الواقفين معه فى لجنة مرورية، رغم عدم وجود ضابط، وأخرج لى ترسانة القوانين المرورية ليأخذ نصيبه من التكافل الاجتماعى الواجب تطبيقه عليه ليتعشى هو وزملاؤه فى أحد محال الكباب، واضطررت أن أشارك ماليا فى حملته هذه.

ضغط على الوريقات المالية فى يده وضرب لى بعدها سلاما مربعا وأشرقت ابتسامته ليل القاهرة. بالطبع لم تكن المرة الأولى التى أضطر فيها أن أقوم برشوة أحد رجال الشرطة فى شوارع المحروسة أمام أبنائى. ما الذى تحمله هذه الرسالة لوجدان أبنائى؟ أعلم من الآن أن أبنائى ترسخ لديهم شعور بالنفور من قوات الأمن.

هذه الرسائل المتواصلة مما يعيشونه ويسمعونه ويقرأونه ويشاهدونه سوف يكون لها أثر أكثر عمقا من مجرد مشاعر النفور. وينسحب الأمر ذاته على المدرس واضطراره تقديم خدمات تعليمية منزلية فى مسيرته المقدسة للتحايل على المعايش. ثم يتساءلون عن أزمة العلاقة بين المدرس والتلميذ.

فرسائل الحياة التى تتلقاها أجهزة الاستقبال الدقيقة المثبتة فى أذهان أبنائنا تبلغهم أن عليهم ألا يحترموا القائمين على التعليم وعلى الأمن، وأن الفساد هو القانون الأعلى، فهو دستور البلاد. أمر فى منتهى القسوة وفى منتهى الخطورة.

التحقت ابنتى بالجامعة، ثم انضمت لاتحاد الطلبة وتدرجت فى العام الثانى لها فى الجامعة، وأصبحت مسئولة عن البحث عن رعاة لحدث طلابى سوف يجرى فى الجامعة الشهر المقبل، يتلخص دورها فى الاتصال بشركات لتقدم لهم عرضا يتضمن المزايا التى سوف يحصلون عليها، وتنتظر فى المقابل قبولا أو رفضا لهذا العرض.

وواجهت ابنتى التى تعتبر نفسها فتاة كبيرة وناضجة لأنها أتمت عامها الثامن عشر رسائل جديدة لفهم الشخصية المصرية.
قامت بالاتصال بنحو 150 شركة من تخصصات مختلفة. كان الرد دائما أننا سوف نتصل بك لاحقا، ولم تجد الرد الذى كانت تنتظره، فلم يرفض أحد ولم يقبل أحد. انتظرت أن يعاود الاتصال بها أى من الموظفين الذين وعدوها بالاتصال. لم يتصل أحد. كلمتهم جميعا مرات جديدة، واستطاعت الحصول على موعد مع ثلاثين شركة، أما الشركات الأخرى فلم ترفض ولم تقبل ولم تحدد موعدا لمناقشة الأمر.

ذهبت هى وزملاؤها فى مهمة إقناع هذه الشركات بقبول العرض. أول لقاء تم الاعتذار عنه قبل الموعد بأقل من ثلاثين دقيقة، كانوا بالطبع فى الطريق إلى هناك. ثانى لقاء مع شركة كبرى اكتشفوا فيه أن الموظف أعطاهم عنوانا خاطئا. موعد آخر فى المعادى لم يجدوا غير السكرتيرة ولم تكن على علم بأى موعد.

صاحب شركة طلب تعديل الموعد من مقر الشركة إلى مقر إقامته فى فيلا بمدينة الشروق. بعد ذهابهم إلى مقر شركة اعتذر الموظف أنه نسى تماما الموعد وأنه سوف يعاود الاتصال بهم لتحديد موعد جديد، وبالطبع لم يتصل. آخرون وأثناء اللقاء أكدوا أن العرض مغرى ولكن ليس لديهم مطبوعات كافية ولكن سوف يفكرون فى الأمر، أكد آخر أنه يود الاشتراك معهم ولكن عليه أولا أن يفتتح فرعا جديدا له. لم تفهم على الإطلاق لماذا أعطوها إذن مواعيد للقائهم؟ لم يرفض حتى الآن أحد ولم يقبل أحد. لماذا لم يستطع أى موظف أن يكون باترا وأن يقطع بالإيجاب أو بالسلب؟ كان هذا سؤالها البسيط.

ما تلقته ابنتى من رسائل فى مشوارها هذا الذى دام قرابة الشهر سوف يؤثر تأثيرا كبيرا على استكمال بناء نسقها القيمى.

خرجت منه بإجابات عن سؤال تتلقاه كثيرا مثلها مثل أبناء جيلها: لماذا فقد جيلكم احترام ما هو قائم؟ ما العمل؟

خالد الخميسي  كاتب مصري