فى الدول الديمقراطية التى تضبط نصوص الدستور فيها العلاقات بين مؤسسات الحكم، يذهب ممثلو السلطة التنفيذية إلى البرلمان لنيل الموافقة على أى قرار أو مشروع، وفى سبيل الحصول على تلك الموافقة يقدم الوزراء لنواب الشعب شرحا وافيا ودراسة مستفيضة عن المشروع المقترح، على أن تشمل التكلفة والجدوى والبدائل... إلخ.
أما فى بلادنا فيحضر الوزير جلسات المجلس النيابى لاستكمال الشكل ليس إلا، فالقرارات قد تكون صدرت بالفعل والمشروعات قيد التنفيذ، على اعتبار أن «زيت الحكومة فى دقيق البرلمان»، وأن الشرح والعرض والمناقشة مضيعة للوقت.
الأسبوع الماضى قابلت حكومتنا غضب عدد من النواب على استمرارها فى سياسة الاستدانة والاقتراض، بتقدمها بطلب للموافقة على قرض جديد يتعدى الـ 2 مليار يورو لتنفيذ مشروع الخط الأول لشبكة القطار الكهربائى السريع الذى تم التعاقد على تنفيذه مع تحالف يضم شركة ألمانية وشركتين مصريتين.
العرض الذى تفضل وزير النقل كامل الوزير بطرحه على نواب المجلس لإقناعهم بالموافقة على قرض لتنفيذه ليس أكثر من «تحصيل حاصل»، فالمشروع دخل حيز التنفيذ بالفعل والحكومة ممثلة فى الهيئة القومية للأنفاق تعاقدت قبل نحو عام مع التحالف الفائز بالمشروع، بعدما وقعت اتفاقا مع مجموعة من البنوك الأجنبية التى ستقوم بتمويله بقرض سيتم سداده على مدى 14 عاما، بحسب ما نشرت الصحف حينها.
وفى نهاية الجلسة التى تم تخصيصها لمناقشة الحساب الختامى للموازنة العامة والتى شهدت انتقادات حادة من نواب المعارضة لسياسة الاقتراض ووصول الدين الخارجى إلى حد الخطر، قال الوزير إنه جرى الانتهاء من 45% من أعمال الخط الأول للقطار الكهربائى السريع.
وعندما طلب عدد من النواب الإطلاع على دراسة الجدوى الخاصة بالمشروع ومناقشتها، رفض الوزير، فما جدوى اطلاع السادة نواب الشعب على دراسة مشروع بدأ تنفيذه بالفعل، وقال موجها خطابه لهم: «النهاردة جايين لحضراتكم لاستكمال الحلقة.. جايين نكمل القانون بالقرض.. ده نهجنا.. شغالين مش لسة بنفكر.. علشان نكسب وقت.. نفسى نسبق بكم وبالشعب المصرى إن شاء الله».
كلمة الوزير لا يفهم منها إلا أنه جاء فقط لاستكمال الشكل واستيفاء الإجراء الدستورى، فلا وزن ولا رأى لنواب المجلس الموقر، فالوزير على يقين أن طلبه لن يُرفض وسيتم تمريره، ولا مانع من التعامل مع بعض الانتقادات التى يوجهها نواب المعارضة الذين يمثلون أقلية الأقلية، المهم أنه ضامن وواثق فى موافقة الأغلبية مهما كانت الاعتراضات ومهما بلغ الغضب الشعبى مداه.
بالتعبير الشعبى الحكومة «سلخت قبل أن تذبح»، تعاقدت واتفقت على القرض وبدأت فى التنفيذ وبعدها ذهبت لنواب الشعب كى يوافقوا وهو ما جرى، ضربت السلطة التنفيذية كعادتها بالدستور عرض الحائط، وتجاهلت الإلزام الدستورى الذى لا يجيز لها «الاقتراض، أو الحصول على تمويل، أو الارتباط بمشروع غير مدرج فى الموازنة العامة المعتمدة يترتب عليه إنفاق مبالغ من الخزانة العامة للدولة لمدة مقبلة، إلا بعد موافقة مجلس النواب».
بعدما عرض الوزير طلبه بالموافقة على القرض، هاج بعض النواب عليه كما سبق لهم أن هاجوا على زميله محمد معيط وزير المالية عند استعراضه الحساب الختامى والموازنة العامة، لكن لا حياة لمن تنادى، فأصحاب القطار السريع ماضون بنفس سرعة قطارهم فى ذات الطريق وليس لديهم نية فى أى مراجعة أو اعتراف بالخطأ.
أقر وزير المالية خلال الجلسة البرلمانية بأن هناك أزمة اقتصادية طاحنة، لكنها ليست من صنع الحكومة بل «ارتداد للأزمة العالمية»، وحتى إن كان ذلك كذلك، فكان أولى بالسلطة التنفيذية التوقف عن سياسة الاقتراض وإهدار المليارات على ما لا يدخل تحت بند الضرورة القصوى، إنفاذا لتعهدها بـ«ترشيد الإنفاق العام بالجهات الداخلة فى الموازنة العامة وتأجيل تنفيذ المشروعات التى لها مكون دولارى» وفقا لقرارها المنشور بالجريدة الرسمية فى يناير الماضى.
لو كانت الحكومة التى وصفها النائب أحمد الشرقاوى بـ«المقاول الفاشل فى إدارته لمشروعاته»، تقيم وزنا لهذا البرلمان، ما أقدمت على توقيع اتفاق والبدء فى مشروع قبل أن تحصل على موافقة ممثلى الشعب، لكنها تدرك تماما أنها فوق المحاسبة، فنواب المجلس الموقر لا يملكون ممارسة أى دور رقابى اللهم إلا بعض الأدوات التى تدخل تحت بند «ذر الرماد فى العيون».
يثق وزراء السلطة التنفيذية فى نوابهم ثقة عمياء، وحتى لو حدث وتصاعدت انتقادات فى بعض الجلسات، يوقن السادة الوزراء تماما أنهم سيعودون إلى مكاتبهم وهم حاصلون على موافقة الأغلبية التى تم تشكيلها خصيصا لدعم سياساتهم وقراراتهم ومشروعاتهم.