ثَبَات - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 4:50 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ثَبَات

نشر فى : الجمعة 14 يونيو 2019 - 11:15 م | آخر تحديث : الجمعة 14 يونيو 2019 - 11:15 م

جلسَ الناسُ ينتظرون الإعلانَ عن رؤية الهلال، مُستعدين للاحتفال بالعيد؛ فما ثبتت الرؤيةُ ولا تأكَّدت الولادةُ، بل كان التشوُّش سيّدَ الاستطلاعِ؛ بما فجَّر موجاتٍ عاتية مِن السُخرية، وأفرز نقاشًا مَرير. لحظةٌ عجيبةٌ كلَّلتها اعترافاتٌ إعلاميةٌ حول دور السياسة في تثبيتِ الظهور، وتحديد البداياتِ والنهايات، وتحييد العِلمِ والحسابات؛ وكأننا نقبع خارجَ حركةِ الحضارة والتاريخ، لا تغيرنا النكباتُ ولا تُحرّكُنا الخطوب. هلاُلنا الهاربُ المُختبئ، بات كاشفًا لخيبتِنا الثابتةِ الجليَّة.

***
تقول مَعاجمُ اللغةُ العربية؛ ثَبَتَ الشيءُ ثَباتًا أي مَكث دون حِراك. الثَّبَاتُ بالْمَكَانِ هو الاِسْتِقْرَارُ فِيهِ، والثَّبَاتُ عَلَى الرَّأْيِ هو التمَسُّك به وعدم التراجُع عنه، أما ثَباتُ المَفاهيم فدوامُها وبقاؤها. تَثَبَّتَ في الأَمْر أي تأنّى ولم يَعجل، واستَثبَت في أَمرِه إِذا شاور بشأنِه الآخرين وفحصَه، وإذا قِيل واجَهَت المرأةُ الأزمةَ بثباتٍ؛ فالقصد أنها تحلَّت إزاءَها بالشجاعة والثقة.

***
ثبات القلب؛ تعبير يعكس هدوء النفس، والقدرة على ترشيد ما يعترينا مِن انفعالات حيالَ المواقف الصعبة، والأحداث المُفاجئة. في الثبات عند الشدائد حِكمةٌ وقوةٌ واطمئنان؛ خصائص نُولَد ببعضِها، وتمنحنا الحياةُ البعضَ الآخر كرمًا، أو جزءًا مِن اختبار.

***
في الذاكرةِ مشاهدٌ عدة، وفي الأذن لا يزال يتردد النداءُ؛ ما إن تدوّي قنابلُ الغاز وطلقاتُ الحيّ والمطاط أثناء التظاهرات، ويبدأ المجتمعون في التفرُّق والعدو بلا تنظيم، حتى يعلو صوتٌ رابط الجأش؛ يحثُّ الناسَ على عدم الخوف، وتمالُك النفس، وترتيب الصفوف: "ثابت.. ثابت"، تنتشر عدوى الثباتِ في لحظات، وتستجيبُ الأكثريةُ وتعود أدراجَها؛ لتبدأ جولةٌ جديدةٌ مِن الكَرّ والفَرّ.

***
ربما يكون الثابت الأشهر في ذاكرة الجماهير الغفيرة، حارس مرمى النادي الأهلي صاحب الملامح المنحوتة؛ ”ثابت البطل“ الذي قضى ما يقرب من ستة عشر عامًا في موقعه، متمتعًا بنصيب كبير مِن اسمه، إلى أن رحل عن الحياة منذ سنوات بعدما صارع المرض وصمد.

***
الثباتُ على المبادئ الإنسانية الكبرى قِيمةٌ إيجابية، فيما الثباتُ على أفكارٍ قابلةٍ للمُداولةِ والتعديل جمودٌ وسلبية، لكن المسألةَ ليست بسيطة كما تبدو؛ فالتفرقة ما بين المبدأ الذي لا ينبغي التعدي عليه، وبين الفِكر الذي يحتمل النقاش والاختلاف؛ أمرٌ صار عسيرًا. ثمَّة مَن يبرر سلبَ الحرية، ومَن يدافع عن الظُلم، وفي مسارات موازية؛ تُقحَم توافه الأفكار مَحَلَّ الكُبريات، وتتحول إلى أصنامٍ يطوف حولها صانعوها. تصبح ثوابتُ الأمة مُرتبطةً بأشخاص مُتغيرين، بل ربما يصبحون هم أنفسُهم ثوابتَ لا يجوز التعرُّض لها، فيما تسقط أبجدياتُ الأخلاق التي تمتَّعت سابقًا بالاستقرار، وتدهسها الأقدامُ؛ لتؤكد أن الثباتَ على الحقّ مِحنةٌ في أزمنة الفساد.

***
الثابتُ والمُتحَوِّل؛ نصٌ مُكوَّن مِن أجزاء أربعة، طبَقَت شهرتُه الآفاق، وقد صدر في السبعينيات، وأُعيدَت طباعتُه بضع مرات بعدما أثار زخمًا مِن التساؤلات، وحرَّض على مُناطحاتٍ فكرية امتدَّ أثرها لعقود. حَمَل الكتابُ طروحًا مُثيرة للجدل؛ ما بين التغيُّر والثَّبات، والنقل والتأويلات، وحدود العقل وقيوده؛ إن كانت موجودة، وقد خلخل به ”أدونيس“ ما دام مِن الرواسي، وألقى حجرًا في الراكد.

***
المعركة بطبعها مُتجددة؛ بين مَن يدفعون بوجود ثوابت في المَوروث الدينيّ؛ لا يجب تجاوزها أو العبث بها، ومَن يدافعون عن دور العقل في تكييف النصوص وتطويع السرديات وتأويلها. يصل العِراك إلى تراشُقٍ مَقيت ويحمل إلى الجانبين اتهاماتَ مُفزعة، إذ يتجمَّد كُلٌّ عند مَوقِفه، ويكُفُّ عن الحركة.

***
حالُ الثباتِ التي تُغلّف بعضَ الأفكار، قد تتغلغل في الرؤوس، وتمتد لتكسو الهِمَمَ والعزائِمَ وتُقعِدها، والقاعد في مكانِه، لا يشغل بالَه بطلب مَعرفةٍ جديدة، أو بالسير خطوة تجاه المُستقبل؛ لا يلبث أن يتقهقرَ إلى الوراء، وسرعان ما يعبره الزمنُ في ثباته، تاركًا عليه أتربة القِدَم، وخيوطَ العنكبوت.

***
كان الوقوف ثباتًا في طابور المدرسة ضِمن علامات الاحترام والالتزام. بمرور الوقت لم يعد هناك طابور، ولا بات الثباتُ مِقياسًا للانضباط، وأصبح الوقوفُ نفسُه مُتعسرًا لضيق المكان.

***
"يا مُثبِّت العقل في الراس"؛ استغاثة ما برحنا نستخدمها في وَفرة؛ حرفًا أو بما تحمل مِن مَعنى. نطلقها إذ تكسر الأحداثُ التي نمر بها حدودَ المعقول، وتغدو عبثًا في عبث؛ تشتِّت الذهنَ، وتورث التشوشَ والارتباك، بل وتقترب بنا مِن حافةِ الجنون.

***
يقيس مُعامِل الثبات دقَّةَ الاختباراتِ وصلاحيتها، فإذا قام بتطبيقها أشخاصٌ مُختلفون، وظهرت النتائج نفسُها تحت ظروفٍ وعوامل مُتشابهة، كان ثباتها هذا علامةَ نجاح، ودليلًا على اجتناب التذَبذُب، وتلافي مُسبِّبات التشكيك.

***
خضنا اختبارًا تلو اختبار، تشابهت الظروفُ وتقاربت المُنطلقاتُ وتبدل الأشخاصُ، وكان أن انتهينا إلى نتائج واحدة، مُفجعة، مرة بعد الأخرى. أثبت الاختبار دقَّته وكفاءَته، وأثبتنا أن بصائرنا ليست على ما يرام.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات