كيف وقع 30 طالبًا مصريا فى حب كيم إيل سونج؟ - هاني شكر الله - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 8:19 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

كيف وقع 30 طالبًا مصريا فى حب كيم إيل سونج؟

نشر فى : الجمعة 14 أغسطس 2009 - 8:32 م | آخر تحديث : السبت 15 أغسطس 2009 - 1:34 م

 المحاكمات الإيرانية تبعث على الكآبة أكثر مما تستثير غضبا. تستدعى محاكمات ستالين، وأبشع ما فى هذه وتلك هى الاعترافات. أى نوع من القهر النفسى والروحى هو ذلك الذى يدفع مساعدا سابقا لرئيس الجمهورية، أو مسئولا سابقا فى اللجنة المركزية للحزب البلشفى، لأن يدلى باعترافات سخيفة لا يصدقها عقل طفل لم تُعمِه الأيديولوجية، أو تجمد ضميره إذعانا لمقتضيات المصلحة العليا «للثورة»، أو درءا لأية ثغرة ينفذ منها الأعداء المتربصون؟

تذكرت نصا مسرحيا لبرتولت بريخت، يعود إلى عام1930، بعنوان «القرار»، بدا كمحاولة من الكاتب العظيم لإيجاد تبرير ما للموجة الأولى من «تطهيرات» ستالين فى 1927(تلك التى وصلت إلى ذروة مروعة فيما عرف بمحاكمات موسكو فى 36 ــ 37). وتروى المسرحية قصة ثلاثة «رفاق» كلفوا من الأممية الشيوعية بدعم ثورة بازغة فى الصين، فكان أن اضطرتهم الظروف لإعدام رفيقهم الرابع ـ بموافقته وترحيبه ــ بعد أن ارتكب خطأ هدد بكشف المهمة الثورية وتعريضها للخطر. تنتهى المسرحية بالكورس البريختى يؤكد «للرفاق» الثلاثة صواب اختيارهم فى أن وضعوا مصلحة الثورة فوق كل اعتبار، بما فى ذلك حياة رفيقهم.

واقع الحال، كما بينت التجربة البشرية طوال القرن الماضى، وقبله، ومازالت تبين، فإن «القضية» التى لا تستطيع أن تحيا بدون أن تأكل أبناءها لا تستحق العيش أصلا، وأن سحق الناس، جسدا وروحا، من أجل مصلحة الثورة أو قضية الوطن ما لبث أن أودى بالناس وبالثورة وبقضية الوطن إلى التهلكة فى نهاية المطاف. أما الاعترافات كما شهدناها فى كل من المحاكمات الإيرانية الأخيرة وفى نموذجها الستالينى العتيق، فهى بدورها تدل على مستوى مروع من الانسحاق الروحى يصعب تحقيقه بدون توفر إمكانات للقهر الروحى والنفسى تكاد تماثل، وربما تتجاوز فى بعض الأحيان، ما تمتلكه أى دولة استبدادية من إمكانات للقهر الجسدى، وتلك تتميز بها بشكل خاص النظم والقوى الأيديولوجية ذات الطابع الإيمانى ، مثل التى أدت «برفيقنا» لدى بريخت أن يقبل بإعدامه عن طيب خاطر.

المبعث الثانى للكآبة التى تثيرها فى النفس المحاكمات الإيرانية هو ما تعكسه من انتصار للغباء على حساب الذكاء، وللجهل على حساب الحكمة. وكنت فيما سبق، ورغم كل تحفظاتى على النظام الثورى فى إيران، معجب بما تبديه النخبة الحاكمة من فطنة وذكاء فى إدارة سياستها الخارجية، وهو أمر نادر، بل وربما يكون منعدما فى إقليمنا. كانت هذه القناعة هى ما دعانى لتذكرة وزير الخارجية الإيرانى منوشهر متقى، خلال حوار أجريناه معه فى شرم الشيخ منذ أسابيع قليلة، بتقرير كان مركز التفكير الاستراتيجى البريطانى الشهير، تشاتام هاوس، قد أصدره قبلها بنحو عامين، ووصف فيه السياسة الخارجية والإقليمية الإيرانية بمن يلعب الشطرنج، مقارنا بينها وبين السياسة الخارجية لإدارة بوش، التى وصفها التقرير بمن يلعب البوكر، وعبرت للوزير عن خشيتى من أن يكون تبادلا للأدوار قد حدث، وأن تكون الظروف قد دفعت بطهران لأن تلعب هى البوكر، بعد أن بدأت الإدارة الأمريكية فى عهد أوباما تلعب الشطرنج.

وببساطة، فلا يمكن لأحد يمتلك حدودا دنيا من العقل والعقلانية أن يصدق أن حركة شعبية شملت عشرات، بل ومئات الآلاف أن تكون مدفوعة من جهات أجنبية أيا من كانت. بل ويستحيل لأى شخص أتيح له أن يخبر عن قرب الديناميات شديدة التعقيد للاحتجاج الجماهيرى أن يصدق أن مثل هذه التحركات العارمة يمكن أن تدفع حتى من قوى داخلية، مهما بلغ نفوذها واتساع قاعدتها الشعبية.

تذكرت الحركة الطلابية المصرية فى عام 72، (ويبدو أن بلوغ سن معينة يدفع بالواحد منا لأن يقرن كل حدث جديد بذكرى حدث مشابه يستدعيه من غياهب الذاكرة)، وكانت أجهزة الأمن وقتها قد وقعت على كوريا الشمالية، وزعيمها فى ذلك الحين، كيم آيل سونج (والد الزعيم الحالى، وجد الزعيم المقبل، على الأرجح)، باعتبارها الجهة الأجنبية المحركة لانتفاضة الطلبة، فلم تكن العلاقات مع الاتحاد السوفييتى أو الصين تسمح بإقحام أى منهما فى مثل هذه الأمور. وحينها كانت الحكومة الكورية تنشر لسبب يصعب على إدراك كنهه حتى يومنا هذا إعلانات صفحة كاملة فى الصحف القومية المصرية، تستعرض من خلالها إنجازات كيم آيل سونج، وهو حسب وصفها، وحسبما أذكر: «الزعيم المحبوب من30 مليون كورى». وفى المقابل، كان الرئيس الراحل أنور السادات قد أكد فى معرض هجومه المذاع تليفزيونيا على الحركة الطلابية أن «القاعدة الطلابية سليمة»، وأن30 طالبا فقط هم من وراء الاعتصامات والمظاهرات التى ضمت عشرات الآلاف، وهو ما دعا بعض الأصدقاء الخبثاء فى هندسة القاهرة إلى إضفاء تعديل فكاهى على لقب الرئيس الكورى ليصبح «الزعيم المحبوب من 30 مليون كورى و30 طالبا مصريا».

أعجب حين يقبل بعضنا مثل هذا السخف فيما يتعلق بعشرات ومئات الآلاف فى إيران ويرفضونه، عن حق، حين يطلقه بعض آخر على بضع مئات من النشطاء المصريين شاركوا فى مظاهرات وتحركات «كفاية» عام2005، وبعدها.
ولعل السبب الثالث للكآبة هو أمضاها وأشدها بأسا، فهو ذلك الماثل فى إننا، وبعد أكثر من 42عاما منذ هزيمة يونيو 67، مازلنا نراوح فى المكان نفسه فى مسألة من المفترض أن نكون قد أشبعناها حسما، وهى المبادلة بين الحرية والديمقراطية من جهة، والدفاع عن الوطن فى مواجهة الأعداء الخارجيين من جهة أخرى. من حقنا أن ندافع عن إيران فى مواجهة نتنياهو الذى يتحرق شوقا لتوجيه ضربة جوية لمنشآتها النووية، ومن حقنا أن نرفض مساعى حصارها وعزلها، أمريكية كانت أم إقليمية، ومن حقنا أن ندعو العرب وجيرانهم الإقليميين فى كل من إيران وتركيا للإتلاف والتحالف من أجل فرض شروطهم، وفى مقدمتها استرجاع حقوق الشعب الفلسطينى، وذلك فى ظل نظام عالمى يتحول بسرعة فائقة من نظام للقطب الواحد إلى نظام متعدد الأقطاب والأطراف. ولكن ما الذى يجعل الحرية قربانا ضروريا لتحقيق أى من هذا، خاصة وقد تبين لنا المرة بعد الألف أن التضحية بالحرية لا تلبث أن تؤدى بصورة حتمية إلى التضحية بقضية الوطن نفسها؟

منذ عامين تقريبا كان من حظى المشاركة فى لقاء بين الرئيس الإيرانى السابق محمد خاتمى ومجموعة من المثقفين والصحفيين المصريين فى مقدمتهم الأستاذ هيكل، الذى تم اللقاء فى ضيافته وبدعوة منه. فى أعقاب اللقاء (عرض له حينها باقتدار معهود الزميل والصديق عبدالله السناوى فى الشقيقة «العربى»)، وبعد أن غادر الوفد الإيرانى ومعظم المدعوين، سأل الأستاذ هيكل البعض منا ممن تباطئوا فى الرحيل عن رأيهم فى أهم ما قاله خاتمى خلال اللقاء. اقترح كل منا وجها معينا من أوجه حديث الرئيس الإيرانى السابق، أما الأستاذ هيكل فاختص قول خاتمى بأنه كرجل دين يرفض أن يوضع الدين فى تناقض مع الحرية، وذلك حرصا منه على الدين، فالحرية يستحيل كبح جماحها.

هاني شكر الله عضو مجلس تحرير جريدة الشروق ، و المدير التنفيذي لمؤسسة هيكل للصحافة العربية ، وهو رئيس التحرير السابق لصحيفة الأهرام ويكلي ، كما أنه عضو مؤسس للمنظمة المصرية لحقوق الإنسان ، وعضو مؤسس وعضو مجلس إدارة المركز العربي الأفريقي للأبحاث.
التعليقات