«إنه يخشانى ولا يخشى الله» - مدحت نافع - بوابة الشروق
الثلاثاء 23 أبريل 2024 10:38 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«إنه يخشانى ولا يخشى الله»

نشر فى : الإثنين 14 سبتمبر 2020 - 7:05 م | آخر تحديث : الإثنين 14 سبتمبر 2020 - 7:05 م

إذا كانت الدراما العربية تحمّل مؤخرا بعدد من الرسائل السياسية المباشرة أو المشفّرة، فإن عملا دراميا بعينه قد أثار جدلا واسعا فى العديد من الأوساط، ذلك الذى حمل اسم «ممالك النار». الرسالة التى حملها المسلسل مركّبة لكن الخط البارز فيها هو فكرة الغزو العثمانى لمصر بقيادة سليم الأول، وهزيمة السلطان قنصوة الغورى ثم خليفته طومان باى القائد المملوكى الذى تصدّى للعدوان العثمانى فهزم وقتل وشيّعه المصريون بحزن وتأثّر. لن أنساق هنا خلف سردية الخير فى مقابل الشر التى يسهل هضمها فى وعى الجماهير، لكننى أريد أن أتناول جانبا واحدا يمكن أن يتسع له المقال لاستعراض النشأة التاريخية للمماليك وخاصة المماليك الأتراك! علّنا نقف على حقيقة التمييز بين الفسطاطين على نحو أكثر موضوعية، بعيدا عن العاطفة أو المؤثرات السياسية المستجدة.
فى كتاب «ابن خلدون: البحر المتوسط فى القرن الرابع عشر، قيام وسقوط إمبراطوريات» يقدّم أحمد مختار العبادى من جامعة الإسكندرية فيما ترجمه إبراهيم سعيد فهيم، استعراضا تاريخيا لنشأة المماليك الأتراك. يقول العبادى «كان المماليك الأتراك هم العبيد البيض الأكثر شهرة فى الشرق الإسلامى. ففى بداية القرن الثامن الميلادى بدأ المسلمون – بقيادة القائد العربى قتيبة بن مسلم ــ فتح تركستان وأراضى ما وراء نهرى جيحون وسيحون. ومنذ ذلك الوقت، حاز العبيد الأتراك وضعا متميزا فى المجتمعات الإسلامية بسبب ولائهم وشجاعتهم وقوة بنيتهم وحسن خصالهم. واعتبرت أقاليم ما وراء نهر سيحون – والمعنى بذلك خوارزم وطشقند وفرغانة وسمرقند وبخارى ــ مراكز هامة، حيث كان العبيد الأتراك ينالون تدريبا عسكريا إسلاميا، ثم يصدرون لاحقا إلى أجزاء أخرى من العالم الإسلامى».
ولأن المملوك التركى كان يعامل معاملة خاصة، ولا يقبل بأية أعمال دونية فقد قال المؤرخ ابن حسول المتوفى سنة 1058 «عندما يعتق تركى لن يقبل بأى شىء غير القيادة العسكرية أو مركز وصيف حاكم. وسيكون غير قانع إلا إذا كانت هناك مساواة بينه وبين سيده فى شروط الطعام والملابس والركوبة!».
ويتابع العبادى: «ويبدو أنه قد بدئ فى استخدام المماليك الأتراك للمهام العسكرية والإدارية مع نهاية عصر الأسرة الأموية». وفيما يتعلق بهذا ينص الطبرى على أن نصر بن سيار (حاكم خراسان خلال عهد مروان بن محمد آخر خليفة أموى) اشترى ألف عبد تركى، وزوّدهم بالأسلحة، ودرّبهم كفرسان. وفى بداية الأسرة العباسية، يروى الكندى أن الخليفة أبا جعفر المنصور امتلك مملوكا تركيا يدعى يحيى الخرسى، الذى وصف الخليفة ولاءه بالكلمات التالية: إنه يخشانى ولا يخشى الله.. ولقد أصبح المملوك المذكور آنفا حاكما لمصر سنة 778 إلى 780 خلال عهد الخليفة المهدى بن المنصور. ويضيف الطبرى إنه خلال عهد هارون الرشيد نمت مدينة طرسوس (تقع جنوب وسط تركيا) بواسطة الخادم التركى أبوسليم فرج.
***
وقد استخدم الخليفة المأمون بن هارون الرشيد (813ــ833) بدوره عددا من العبيد الأتراك فى حرس الخلافة، ومن بينهم طولون (والد أحمد بن طولون مؤسس الأسرة الطولونية فى مصر). ثم جاء المعتصم بالله خلفا لأخيه المأمون بين عامى 833 و 842 وكانت أمه جارية تركية. وزاد الخليفة الجديد عدد المماليك الأتراك فى الجيش لعشرات الألوف، وأنشأ عاصمة جديدة لأجلهم شمال بغداد سمّيت سامرّاء.
ويقول العبادى أيضا: «وعندما بدأت الخلافة العباسية تضعف خلال المرحلة العباسية الثانية التى عرفت أيضا بمرحلة التأثير التركى (847ــ945) كان من الطبيعى للأتراك أن يزيدوا من قوتهم، فكل البلاد الإسلامية الشرقية التى كافحت لتحصل على الاستقلال، اعتمدت على المماليك الأتراك، وتبنّت نظاما إسلاميا حربيا صارما لتربيتهم وتدريبهم. وكان الأهم من بين تلك البلاد «الدولة السامانية» (874ــ999) التى قامت فى أراضى ما وراء نهر جيحون وكانت عاصمتها بخارى، على الرغم من أن ملوك تلك الدولة كانوا من أصل فارسى»!
وفى صبح الأعشى يقول القلقشندى المتوفى سنة 1418: «نزعت سلطنة المماليك فى مصر إلى استعارة الأفضل فى كل مملكة سابقة، ومحاكاتها وتطويرها وصقلها حتى تفوقت على كل السلطنات الأخرى».
وكما هو معلوم ينقسم حكم المماليك فى مصر والشام إلى أسرتين حاكمتين:
1ــ الأسرة المملوكية الأولى والمعروفة أيضا بالمماليك البحرية خلال الفترة من 1250 إلى 1382.
2ــ الأسرة المملوكية الثانية والمعروفة بالمماليك البرجية أو الجراكسة خلال الفترة من 1382 إلى 1517.
ورغم تشابه كل من الأسرتين فى النظام العام والسياسة والتقاليد.. إلا أن سبب الفصل يرجع إلى أن مؤسس الأسرة الثانية «الظاهر برقوق» قد رتّب لوضع نهاية لنظام قلاوون الوراثى التعاقبى، وثبّت نفسه سلطانا.
ورغم انتصارات الدولة المملوكية على المغول وعلى الصليبيين فى وقت اضمحلال مختلف القوى الإسلامية شرقا وغربا، ورغم الثراء السياسى والتجارى والحضارى لسلطنة المماليك، فإن القوى العدائية الصاعدة متمثلة فى العثمانيين (من الشمال) والبرتغاليين (من الجنوب جهة المحيط الهندى والبحر الأحمر) سرعان ما بدأت فى تقويض ومحاصرة تلك السلطنة، خاصة مع كثرة الاقتتال والصراعات الداخلية بين المماليك، ومع اكتشاف «فاسكو دى جاما» لطريق رأس الرجاء الصالح سنة 1498.
المحاصرة التجارية والاقتصادية من القوتين الصاعدتين صاحبهما تطور فى فنون وأدوات القتال لم يعرفه المماليك، الفرسان بحكم النشأة. كان العثمانيون والبرتغاليون يستخدمون الأسلحة النارية والمدافع، واعتبرها المماليك أسلحة غير إنسانية وجبانة! فاستعانوا لاستخدامها بعبيد من شمال أفريقيا أطلق عليهم وحدات الجيش النفطية والبارودية.
ثم تأتى النهاية المحتومة لدولة المماليك بعدما تحجّرت إدارتها ونظمها (على حد وصف العبادى) وسرعان ما انهار جيشها أمام السلطان العثمانى سليم الأول فى معركة مرج دابق (شمال حلب) عام 1516، وفيها قتل السلطان الغورى. وفى سنة 1517 جمع طومان باى (متعلما من أخطاء سلفه) عددا من المدافع فى الريدانية بصحراء العباسية شمال القاهرة، لكنه وضع المدافع فى خندق طويل جعلها غير متحركة، مما مكّن العثمانيين من مهاجمتها من الخلف قبل أن تطلق قذيفة واحدة!! وانتهت المعركة بأسر طومان باى وقتله والتمثيل بجثمانه على باب زويلة كما يعرف الجميع.
***
المماليك إذن قوم من الأتراك، والعثمانيون من نسل أرطغل هم قوم من الأتراك، ينتسبون إثنيا إلى العرق الأصفر أو العرق المغولى تماما مثل المغول والصينيين. ولقد كان موطن الأتراك الأوّل فى آسيا الوسطى، فى البوادى الواقعة بين جبال آلطاى شرقًا وبحر قزوين فى الغرب. والصراع بين المماليك والعثمانيين كان صراع سيطرة وتمدد واستعمار، لا يبرأ منه أحدهما، بل لا يكاد يبرأ منه أى من الأمم منذ القدم وحتى بداية نشأة مفهوم الدولة الحديثة فى أعقاب مؤتمر وستفاليا لعام 1648، واستمرت النزعة الاستعمارية مسيطرة لما بعد ذلك بعقود، وإن اتخذت أشكالا أخرى واستظلت بنظام أممى منحاز.
وحدها الدولة الحديثة ذات السيادة والحدود المعينة المرسومة يمكنها أن تميّز بين الغزو القاهر والدخول فى تحالفات واتحادات تتنازل بموجبها طوعا عن جانب من سيادتها. دول الاتحاد الأوروبى مثالا حديثا على اتحاد كونفيدرالى يتنازل بموجبه أعضاؤه عن مظهر أو أكثر من مظاهر السيادة الوطنية ومنها العملة مثلا وجواز السفر لصالح الكيان الجديد.. وفى الاتحاد الفيدرالى يكون التنازل عن السيادة أشمل وأكبر (مثال الولايات المتحدة الأمريكية).
فلنقرأ إذن التاريخ بعيون عصره وفى سياقه الصحيح. ولنتجرد من الانحياز السياسى والفكرى بشكل عام عند مطالعة الأحداث التاريخية إن أردنا أن نتعلّم منها، حتى لا نشتبه فى وطنية الزعيم مصطفى كامل لأنه كان ينتصر على الاستعمار بالباب العالى! ولا فى مصرية عمر مكرم لأنه أراد محمد على واليا على مصر، ولا فى تجديد جمال الأفغانى لأنه دعى إلى الجامعة الإسلامية، ولا فى شجاعة الزعيم محمد فريد لأنه آثر المقاومة من خارج البلاد..

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات