أحلامنا الصغيرة - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 11:39 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أحلامنا الصغيرة

نشر فى : الأربعاء 16 مارس 2016 - 10:00 م | آخر تحديث : الأربعاء 16 مارس 2016 - 10:00 م
مشاعر كثيرة ومختلطة تجتاح السورى فى الذكرى الخامسة لاندلاع المظاهرات فى سوريا. فمن نشوة نسيم الربيع حينها، نجد اليوم أنفسنا فى صقيع سيبيرى تارة، أو فى لهب جحيم دانتى تارة أخرى، فذاك الربيع لم يزهر، اللهم سوى عن زهور شقائق النعمان، والتى هى فى سوريا مرتبطة ارتباطا وثيقا بالموت والمقابر. لا داعى للخوض فى مراحل الخمس سنوات الأخيرة هنا، فلكل واحد منا قراءته فى الموضوع، بحسب مواقفنا السياسية التى تتفاوت من المؤمن بحق الشعوب بحياة كريمة يكون لهم فيها حقوق وواجبات كمواطنين، إلى من يؤمن بهيمنة الدولة على عللها دون أدنى تشكيك فى بطشها المستمر، وذلك خوفا من مؤامرة مزعومة أو إمبريالية يتخيلها كما لو كنا لا نزال فى القرن العشرين.

الوضع المأساوى فى سوريا اليوم لم يحقق فيه أى جانب داخل سوريا أو خارجها أى ربح، بغض النظر عن البروباجاندا وشرعية المطالب الأولية والمواقف السياسية المختلفة والمطامع الإقليمية والتجاذبات الدولية. الوضع مأساوى على كل سورى، قد يكون أقل مأساوية على من لم يفقد بيته أو أحد أقربائه فى السنوات الأخيرة، لكن كذب من يدعى أن الوضع لم يمسه أو أن الحياة مستمرة بشكل عادى. قد تكون الحياة مستمرة فعلا، فما من حرب قضت تماما على إمكانية الناس، فى أوقات الهدنة أو فى الفترات الأكثر هدوءا، على الخروج من بيوتهم ومن ممارسة طقوسهم اليومية حين أمكن ذلك، كالذهاب إلى العمل أو إلى المدرسة، أو شراء المستلزمات أو حتى الزواج وإنجاب الأطفال والاحتفال بأعياد الميلاد وزيارة الحلاق أو الطبيب. لكنها حياة أقل ما يقال عنها إنها غير عادية. فاستراق لحظات مع صديقة لشرب فنجان من القهوة أو حمد الله على سلامة أحدهم بعد أن نكون قد سمعنا عن انفجار فى منطقة مكتظة ليس طبيعيا.

***
تبدأ هذا الأسبوع جولة جديدة للمحادثات حول مستقبل سوريا السياسى، مع التركيز على شكل العملية الانتقالية التى يعول على أنها سوف تخرج سوريا من بئر الدم. بالنسبة لعشرة ملايين سورى خرجوا من بيوتهم، الهم المشترك هو هم البقاء على قيد الحياة، وإطعام أطفالهم والوصول إلى الطبيب إن أمكن. لم يعد هم السورى هو بناء طابق إضافى فوق بيته ليتمكن الابن البكر من الزواج، لم يعد حلمه هو الحصول على منحة لتحصيل شهادة الماجستير فى جامعة متقدمة، لم يعد أمله فى الحصول على ترقية فى العمل تمكنه من صعود السلم الوظيفى بشكل يتماشى مع جهوده وإمكانياته.

«الحمد لله كله تمام» يقول الأقرباء عبر خط الهاتف حين نسألهم عن أحوالهم. أتذكر أيام الحرب اللبنانية حين كانت دمشق تعج باللبنانيين الهاربين من نيران معاركهم. كنا نتغامز من ورائهم ونقول «مو معقول اللبنانية، بين انفجارين عندهم وقت يتحمموا ويعملوا شعرهم، شوفوا ما أحلاهم»، اليوم نفهم أن الحياة تستمر بين الانفجارات. طبعا هى تستمر لمن لم يمت تحت البرميل المنفجر أو بسبب قذيفة الهاون، هى مستمرة لأن هكذا هى الحروب، تطحن البيوت وتبعثر العائلات. فظيعة هى فكرة أن سورياً واحدا يخرج من مكان إقامته بسبب الحرب كل عشرين ثانية، إحصائيات يصعب تصور صحتها حين نقرأها. ماذا يأخذ معه حين يركض خارج البيت؟ كيف تجر أم ثلاثة أطفال وهى تهرع إلى مكان آمن؟ ماذا يخطر ببالها وهى تحثهم على الخروج؟ هل يغلقون باب البيت؟ هل يأخذون معهم حاجات شخصية؟

***
أذكر حين عملت فى بلد ذاق ويلات الحرب منذ سنوات، أننى جلست على الأرض فى مخيم للنازحين أستمع إلى قصص حكتها لى سيدات كن يعشن فى ذلك المخيم. كنت حاملا بطفلى الثانى، وقد حكت لى شابة جميلة أنها ركضت خارج بيتها جارة وراءها اثنين من أطفالها وطفلين من أولاد الجيران كانا يلعبان فى دارها حين سمعت عن وصول المسلحين إلى القرية. قالت إنها ركضت مع باقى الأمهات دون أن تعى وقتها أن ابنها الأكبر لم يكن معهم، فقد كان عند صديقه لحظة خروجها من البيت، ركضت لساعات طويلة متواصلة وكانت هى نفسها حاملا فى الشهر السادس، كما كنت وأنا أستمع إلى قصتها. وصلت إلى القرية المجاورة لتكتشف أن ابنها الأكبر لم يكن مع المجموعة، وأن والدة الطفلين الآخرين اللذين كانا معها لم تأت معهم. علمت فيما بعد أن الأم قتلت فى ذلك اليوم، وها هى الشابة تربى الأطفال الذين هربوا معها جميعا وطفلها الأخير الذى أنجبته فى هذا المخيم.

اليوم باتت أحلامنا صغيرة: أن نطمئن على صديق بيته قرب مكان سمعنا أن ثمة انفجارا أصابه، أن نعرف أن بيتنا كما تركناه ما زال فى مكانه لأننا لم نخرج منه ألبومات الصور التى وثقنا فيها مراحل خاصة من حياتنا. اليوم نطلب من أشخاص يترددون على حينا أن يصوروا لنا حديقة البيت من الخارج لنرى إن كانت شجرة النارنج قد أزهرت كما كانت تزهر كل سنة، وقمة السعادة تكمن فى أن يأتى أحدهم من هناك حاملا معه حبتى نارنج من تلك الشجرة. ترى ماذا قال لضابط الأمن فى المطار حين أخرج الحبتين من الحقيبة؟ «معلش بس صاحبتى وصتنى على النارنج». نقشر النارنج ونعقده بالسكر على النار فى بيتنا الجديد، نفرد المربى على قطعة خبز، نغمض عينينا ونحلم أننا تحت تلك الشجرة. تبدأ دورة جديدة من المحادثات حول مصير سوريا، لكن أحلامنا فعلا باتت صغيرة.


كاتبة سورية
تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات