رمسيس في باريس! - مواقع عربية - بوابة الشروق
الأحد 19 مايو 2024 5:22 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

رمسيس في باريس!

نشر فى : الأحد 16 أبريل 2023 - 8:15 م | آخر تحديث : الأحد 16 أبريل 2023 - 8:15 م
نشر موقع درج مقالا للكاتب حسن مراد، تناول فيه أسباب الاهتمام الفرنسى بعلم المصريات، مشيرا إلى ارتباط تاريخ فرنسا بالحضارة المصرية القديمة فى أكثر من مشهد بدءا من حملة نابليون بونابرت وفك رموز الكتابة الهيروغليفية، وصولا إلى مسلة الأقصر فى ساحة الكونكورد ودورها فى حل معضلة تلك الساحة السياسية... نعرض من المقال ما يلى.

«سيصل إلى فرنسا زعيم دولة مختلف عن أقرانه. زيارته تحمل طابعا خاصا، إذ سيتفرغ لتلقى العلاج. لكن لن نتمكن من مقابلته، لأنه عبارة عن مومياء». بهذه الكلمات أعلنت إذاعة RTL، عام 1976، عن وصول مومياء الفرعون رمسيس الثانى إلى فرنسا لمعالجتها من الفطريات التى غزتها. أخذت هذه الرحلة العلاجية طابع زيارة الدولة: فرش السجاد الأحمر للمومياء واستقبلها الحرس الجمهورى، ما عكس متانة العلاقة بين البلدين على صعيد علم المصريات كما حجم الاهتمام الفرنسى بالحضارة الفرعونية إلى جانب كونها تتويجا للدور الفرنسى فى إنشاء هذا الحقل العلمى وتطويره.

الاهتمام الفرنسى بالمصريات ليس مجرد قرار سياسى ولا ينحصر بالنشاط الأكاديمى. فى أكثر من مناسبة، نقلت إلى فرنسا قطع أثرية مصرية تعود إلى زمن الفراعنة لعرضها أمام الملأ فى معارض موقتة: «توت عنخ آمون وزمنه» عام 1967، «رمسيس الكبير» عام 1976، «توت عنخ آمون، كنز فرعون» عام 2019.

الإقبال الكبير على هذه المعارض، وتخطيه أحيانا المليون ونصف المليون زائر، دل على شغف الفرنسيين بحضارة مصر القديمة، ليطرح الإعلام الفرنسى نقاشا حول إذا ما إذا كان معرض «رمسيس وذهب الفراعنة» فى قاعة لافيليت فى باريس حاليا، سيسجل رقما قياسيا جديدا فى ما يخص عدد الزوار.

كثيرة هى الأسباب التى تدفع أى شخص للتعلق بالحضارة الفرعونية وهو ما يصطلح على تسميته بالـ Egyptomania (الهوس بالمصريات): ألغازها التى لا تزال تبعث على الحيرة، هيبة معالمها، تطور علومها… من دون إغفال الاهتمام الخاص الذى أولاه المصريون القدامى بالموت وفلسفتهم حول الخلود، ما تجلى فى المقابر الملكية ومومياءاتها وكنوزها.

لكن للفرنسيين أسبابا خاصة تدفعهم إلى إبداء اهتمام مضاعف بمصر القديمة، ففى أكثر من محطة ارتبط تاريخ فرنسا بحضارة مصر القديمة.
• • •

صحيح أن الحملة الفرنسية على مصر أواخر القرن الثامن عشر انتهت بهزيمة عسكرية، لكن التاريخ يذكرها «بمجد» لإنجازاتها العلمية، إذ اصطحب نابليون بونابرت معه مئات العلماء والفنانين من شتى المجالات كما أسس المجمع العلمى المصرى. أبرز الشخصيات العلمية فى ذاك الوقت، كان من دون شك جان فرنسوا شامبليون الذى فك رموز الكتابة الهيروغليفية واضعا أسس حقل أكاديمى جديد ساهم فى استيعاب التاريخ على نحو مغاير ليلقب بـ«أبو علم المصريات». لا يساوى الفرنسيون أنفسهم بأى شخص عادى مهما بلغت درجة هوسه بالمصريات، بل يعتبرون أنهم ينتمون إلى «أمة» كانت الركيزة الأبرز فى إرساء علم المصريات وبثت الروح فى حضارة طواها النسيان 2000 عام.

استذكار الفرنسيين لحملة نابليون على مصر وما نتج عنها من تأسيس لعلم المصريات، لا يخلو من بعض «الشوفينية«، أولا لتسليطه الضوء على حقبة «مجيدة» كانت تعد فيها البلاد قوة عظمى وحسب، فمنذ سنوات، لا يخف الشارع الفرنسى تعطشه إلى شخصية استثنائية تنتشله من تخبطاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، شخصية من وزن نابليون بونابرت ولويس الرابع عشر وشارل ديجول. ثانيا، إن استذكار حملة نابليون بونابرت والحنين إليها يعكسان رغبة فى إعادة استنساخ ذاك السياسى.

انكفاء حملة نابليون عن مصر لم يلجم الاندفاعة الفرنسية نحو علم المصريات: عند تأسيس المجلس العلمى للآثار فى مصر عام 1859 ظل علماء فرنسيون يتولون رئاسته تباعا حتى عام 1952. شخصيات علمية لم يكن مرورها على مصر مرور الكرام.

فإلى جانب كونه صاحب مبادرة تأسيس المجلس المذكور، لعب أوجوست مارييت دورا بارزا فى مكافحة تهريب الآثار ليمنح لقب الباشوية تقديرا لجهوده. وساهم بيار لاكو (كان مدير هيئة الآثار المصرية من عام 1914 حتى عام 1936) فى الحفاظ على كنوز مصر من خلال قانون نص على إبقاء الآثار المكتشفة داخل البلاد، ما منع إخراج مقتنيات توت عنخ آمون من البلاد، من دون نسيان جاستون ماسبيرو (عالم آثار مصرى) ودوره فى إنشاء المتحف المصرى وإزالة الرمال عن تمثال أبى الهول (أشهر التماثيل القديمة، نحت من الحجارة ورأسه تمثل الملك خفرع الذى عاش فى القرن 26 ق. م. طوله 24 قدما وارتفاعه 66 قدما).

جولة سياحية تقليدية فى أرجاء «باريس كافية» للدلالة على ارتباط فرنسا بمصر القديمة: مسلة الأقصر التى تتوسط ساحة الكونكورد، قبالة متحف اللوفر، هى النموذج الأوضح على هذا التأثير. المسلة المذكورة أهداها محمد على (يُعتبر مؤسس مصر الحديثة) لفرنسا لتصبح اليوم أقدم معلم تحتضنه باريس. رحلتها من مصر إلى فرنسا زادت من شهرتها: عملية نقلها من معبد الأقصر إلى ساحة الكونكرد استغرقت خمس سنوات ونيف (1830 ــ 1836)، كما صنعت سفينة خصيصا لها قادرة على الإبحار فى البحر المتوسط ونهرى النيل والسين، على حد سواء.

كما حازت المسلة على رمزية وأهمية مضاعفة بعدما ارتبطت بالصراعات الداخلية الفرنسية: الاسم الأصلى لساحة الكونكورد هو ساحة لويس الخامس عشر ليتغير اسمها عقب الثورة الفرنسية إلى ساحة الثورة (1792) ثم إلى ساحة الكونكورد (1795) وفيها أُعدم الملك لويس السادس عشر بالمقصلة عام 1793.

مع عودة آل البوربون إلى حكم فرنسا عام 1815 أراد الملك لويس الثامن عشر تخليد ذكرى شقيقه عبر تشييد تمثال «الملك الشهيد». لم يكتف خليفته وشقيقه الأصغر، شارل العاشر، فى إطلاق العمل بهذا المشروع عام 1826، بل حول ساحة الكونكورد إلى ساحة لويس السادس عشر فى العام ذاته. «تمثال الملك الشهيد» لم ير النور بسبب ثورة يوليو 1830 التى أطاحت بحكم شارل العاشر. خلالها، شهدت الساحة المذكورة مواجهات مسلحة بين المتنازعين ثم استعادت اسمها السابق «ساحة الكونكورد».

مع اعتلاء لويس فيليب عرش فرنسا، باتت ساحة الكونكورد معضلة سياسية كبيرة. لسحب هذا الفتيل قرر الملك الفرنسى وضع «معلم محايد» وسط الساحة لتحييدها عن تلك الصراعات، ليقع الخيار على المسلة الفرعونية ويقدر لها الاضطلاع بمهمة سياسية لم يُخطط لها.
• • •

يرفض المصريون التسليم بأحقية فرنسا، وسواها من الدول، فى الاحتفاظ بالمقتنيات المصرية. لا يريدون استعادة كل شىء بخاصة ما نُقل بصورة شرعية مثل مسلة الأقصر، كما أنهم لا يمانعون فى إبقاء مقتنيات متفرقة فى الخارج كنوع من الترويج للسياحة فى مصر، حالها حال معرض «رمسيس وذهب الفراعنة» وسواها من المعارض المتجولة.

بالمقابل، يسعى المصريون لاستعادة آثار فرعونية بعينها تحمل رمزية خاصة من خلال حملات شعبية يقودها علماء مصريون. على رأس القائمة يتربع تمثال نفرتيتى النصفى الموجود فى متحف برلين الجديد، إلى جانب حجر رشيد من المتحف البريطانى ونقش برج دندرة من متحف اللوفر. وفيما يتمسك الجانب المصرى برواية أن نقش برج دندرة تمت سرقته من مجمع معابد دندرة لنقله إلى فرنسا على نحو غير قانونى، تقدم إدارة متحف اللوفر رواية مضادة لتبرير امتلاكها هذه القطعة الأثرية: وفقا لمدير الجناح المصرى، فانسون رودون، قام لويس الثامن عشر بشراء نقش برج دندرة من محمد على وعلى هذا الأساس تم نقله إلى فرنسا. لكن الثابت أنه ما من طلب رسمى تم تقديمه بهذا الخصوص ليبنى على الشىء مقتضاه.

النص الأصلى

التعليقات