في النصف الأول من القرن العشرين وفي معامل بيل الشهيرة (Bell Labs) كان كلود شانون (Claude Shannon) ولمدة طويلة من الزمن يأتي إلى العمل في حوالي العاشرة صباحاً يجلس للعب الشطرنج لمدة ساعتين ثم يعود إلى منزله. هذا قد لا يعجب أصحاب هذا المعمل الشهير الملحق بشركة "إي تي أند تي" (AT&T) وقديجلب له المشاكل ولكن العكس هو ما حدث. هذا المعمل خرج منه الكثير من الإختراعات والإسهامات العلمية التي غيرت وجه البشرية ويعمل به الكثير من الحاصلين على جائزة نوبل، فما قصة كلود شانون؟ هو مهندس وخبير تشفير ومن الرعيل الأول من علماء الحاسبات وله الكثير من الإسهامات يهمنا منها في هذا المقال:إرساء قواعد علم جديد يسمى "نظرية المعلومات" (Information Theory) وإرساء (مع آخرين) القواعد التي تقوم عليها اليوم تكنولوجيا الذكاء الإصطناعي. وهناك علاقة وثيقة بين الإثنين كما سنرى.
تدرس نظرية المعلومات كيفية قياس وتخزين ونقل المعلومات. وهي النظرية التي أدت إلى تطوير كافة وسائل الاتصالات السلكية واللاسلكية والإنترنت، لولاها لظل العالم جزر منعزلة تحتاجالمعلومات فيها أسابيعاً أو شهوراً لتنتقل من منطقة إلى أخرى.
المعلومات هي بترول القرن الواحد والعشرين وهي الساحة التي ستدور فيها وعنها الحروب بين الشعوب. لكن ماذا نقصد بالمعلومات؟ قد يدور بذهنك العمليات المخابراتية بين الدول مثلاً ولكن هذا جزء صغير من الصورة الكبرى، فالموضوع أكثر تعقيداً.
مثلما أن البترول يستخرج كمادة خام ثم يتم تكريره وفي كل مرحلة يزداد سعره، فإن المعلومات تمر بمراحل شبيهة. الموضوع يبدأ بما نسميه البيانات أو القياسات (data) مثل قياس وزن شخص ودرجة حرارته على مدار عدة أشهر أو قياس درجة حرارة منطقة جغرافية ما على مدار سنة أو قياس سعر سهم في البورصة على مدار سنة وهكذا، هذه البيانات هي المادة الخام وهي قليلة الفائدة ما لم تمر بالمراحل التالية.
في المرحلة التالية،، يتم استنباط معلومات من تلك البيانات مثل: درجة حرارة هذا الشخص لم ترتفع عن معدلها الطبيعي طوال فترة المتابعة لكن وزنه زاد بنسبة كذا في شهر كذا وكذا، أو أن تلك المنطقة الجغرافية ترتفع فيها درجات الحرارة في شهور كذا وتنخفض بشدة في شهور كذا ويكون الفارق بين العظمى والصغرى أكبر ما يمكن في شهور كذا، أو أن هذا السهم ترتفع قيمته دائماً في فصل الصيف و يسجل أقل قيمة في يناير، وهكذا. ما نستخرجه من البيانات هو ما نطلق عليه إسم معلومات (information) وهي أكثر فائدة من مجرد بياناتبحتة. في هذه الخطوة تستخدم برمجيات معينة لقراءة البيانات المختلفة وتحويلها لمعرفة. الصعوبة تأتي من تنوع أنواع وأحجامالبيانات وسرعة تدفقها، فقياس سرعة الرياح على مدار الساعة في منطقة ما تحتاج سعة تخزينية أكبر من قياس وزن شخص مرة في الأسبوع، وقياس تفاعل الذرات يحتاج سرعات قياس أعلى بكثير من قياس سرعة كتابة شخص ما على لوحة مفاتيح الكمبيوتر. كل هذا التنوع في الحجم والسرعة والنوع يجعل تحويل تلك القراءات إلى بيانات يمكن تخزينها واسترجاعها وقت الحاجة مهمة صعبة.
الخطوة التالية والأكثر صعوبة هي تحويل المعلومات إلى معرفة (knowledge) وهو تعلم شيء من تلك المعلومات يجعلنا نتنبأ بما سيحدث في المستقبل. مثلاً هل سيرتفع سعر هذا السهم الشهر القادم؟ أو هل هذا الشخص عرضة لمضاعفات خطيرة إذا أصيب بفيروس الكورونا أم أن الأعراض ستكون خفيفة؟ هذا يحتاج إلى برمجيات "تتعلم" تلك المعلومات ثم تبني عليها استنتاجات وهذا ما نطلق عليه برمجيات "تعلم الآلة" (machine learning) وهو فرع الذكاء الإصطناعي الأكثر شهرة الآن والذي غالباً ما يقصده الناس حين يتكلمون عن الذكاء الإصطناعي.
الخطوة الأخيرة والتي غالباً ما تتجاوزها الشركات لصعوبتها الشديدة وعدم قدرتنا بعد على برمجتها على الكمبيوتر لذلك تحتاج إلى تدخل بشري هي تحويل المعرفة إلى حكمة ودروس (wisdom). فإن تفوق البشر على كل كائنات كوكب الأرض يأتي من تراكم المعرفة وتوارث الحكمة عبر الأجيال.
هذا المقال هو نواة عدة مقالات قادمة عن المعلومات. حتى نفهم المعلومات يجب أن ننظر لها من عدة جوانب: الجانب التكنولوجي ينظر إلى كيفية التعامل مع المعلومات واستنتاجها من البيانات ومعالجتها لاستخراج المعرفة والأجهزة والبرمجيات التي نحتاجها. الجانب الاجتماعي ينظر إلى كيفية جمع المعلومات عن كل مستخدمأثناء تصفح الإنترنت أو استخدام الهواتف الذكية أو التسوق أو السفر إلخ. الجانب العسكري ينظر إلى كيفية استغلال تلك المعلومات في محاربة العدو. والجانب الاقتصادي ينظر إلى كيفية تسعير المعلومات وهذا يجيب على أسئلة مثل لماذا تتيح مواقع مثل فيسبوك وتويتر خدماتها مجاناَ؟ والحقيقة أنها ليست مجانية كما سنرى في المقالات القادمة. والجانب السياسي ينظر إلى كيفية جمع المعلومات واستخدامها لإدارة شئون البلاد.