القمح - وحيد حامد - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 5:05 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

القمح

نشر فى : الثلاثاء 16 يونيو 2009 - 6:29 م | آخر تحديث : الثلاثاء 16 يونيو 2009 - 6:29 م

 * علاقتى بالقمح قديمة ووطيدة..
كانت طفولتى بين الحقول، وشاهدت الفلاح الذى هو أبى وهو ينثر بذور هذا الرزق فوق الأرض السوداء، ولا تكاد تمضى أيام قليلة حتى ينبت عشب القمح الأخضر المشبع برائحة النقاء خاصة فى ساعات الصباح الأولى وقطرات الندى البارد تكسو هذه الأعواد الخضراء.. وأرقب رحلة النماء عبر الحقول وأنا فى طريقى إلى المدرسة كل يوم.. الأعواد تقوى وتشتد.. والسنابل تنبت وتتوالد بها حبات القمح.. أذكر المشهد وكأنه اليوم، ونسمات الهواء تمر فوق الحقول، وتتلامس السنابل المحملة بالخير وكأنها فى حالة عشق.. وانتظر أيام وليالى الحصاد حيث ركود «النورج» فى النهار والسهر فى الجرن ليلا، حيث تسرد الحكايات والطرائف.. وأشهد الرزق الذى هو حبات القمح وقد تكومت لتشكل تلا صغيرا من الرزق نحمله إلى «الدار» لنضعه فى صومعة من الطين ليكون زادنا طوال العام.

*علاقتى بالقمح قديمة ووطيدة..
أشياء كثيرة تبددت من الذاكرة.. ولكن من الثوابت التى لا تنسى هو يوم «الخبيز» كانت أمى تخلط دقيق الذرة بدقيق القمح قبل العجين.. وأحيانا وفى بعض المرات تكون نسبة دقيق الذرة هى الأعلى عن عمد، لأن ظروف معيشتنا تحتم عليها ذلك، ولأنها تعلم أن الفلاح الذى يشترى من السوق قمحا يكمل به العام إذا نفد المخزون يعرض نفسه للقيل والقال.. كنت أنتظر يوم الخبيز هذا بفارغ الصبر سواء كان فى دارنا أو فى أى دار أخرى.. رائحة الخبز كانت تأثرنى.. رائحة فريدة فى نوعها لا يمكن أن تتشابه مع أى رائحة لأى نبات آخر.. رائحة تعطيك الإحساس بالنعمة والسكينة والأمان.. وقبل العجين والخبيز كان «الطحين»، وكثيرا ما ذهبت إلى وابور الطحين حيث تتوافد الفلاحات بما تحملن من قمح أو ذرة.. وحسب الدور.. العامل المشرف على عملية الطحين كانت مهمته الأولى هى فحص الحبوب والتأكد من سلامتها وخلوها من السوس قبل أن يلقى بها فى قمع المطحنة الواسع الكبير.. وصاحبة القمح المصاب ترجع إلى دارها حاملة إياه حزينة ومهمومة ومكسورة، فأى قمح به سوس أو فساد لا يمكن طحنه حتى لا يلوث دقيق الأخريات.

الآن.. اختفت أيام وليالى الحصاد.. والأرض التى كانت تزرع قمحا مزقتها وشتتتها بيوت الأسمنت والأعمدة الخرسانية التى زرعت بها.. ومن يزرع قمحا فى استحياء فإنه يبيع المحصول بالثمن البخس.. ويأكل من خبز «السوق» المصنوع من نفايات القمح الروسى والأوكرانى والأمريكانى.. القمح المثقل بالحشرات الحية والميتة والأتربة والمصرح باستعماله علفا للحيوانات فقط.. وبدون تفكير أو تفسيرات خاطئة ندرك أن هناك من تعامل مع المصريين على أنهم حيوانات، فاشترى لهم علف الحيوان وأطعمهم إياه.. ولأنه يعلم تمام العلم أن المسألة سهلة وأنه سيجد فى الأجهزة الحكومية المعنية الخادم المطيع الذى يقبض ويحصل على «الجعل» الذى خصه به السيد المستورد الخفى والذى يظل اسمه مجهولا.. المستورد الشبح الذى يسكن الظلام ويكره الضوء الذى غالبا ما يكون هو الآخر خادما لدى أحد الكبار يعمل لحسابه من الباطن حتى يبقى سيده الموجود فى قلب السلطة بعيدا عن أى شبهة.

اندهشت كثيرا وكدت لا أصدق نفسى عندما أعلن السيد الأستاذ وزير الزراعة فى مجلس الشعب أن الصفقة فاسدة وبها حشرات ولكن بعد عمليات «التبخير» ستكون صالحة.. ولا أعرف ما هو التبخير هذا..؟!

بينما السادة رجال العصابات لا ينتظرون التبخير ويدفعون بالقمح المعطوب إلى أحجار المطاحن العملاقة ليخرج دقيقا ملوثا سرعان ما يتحول إلى خبز تتخاطفه الأيدى الجائعة المتلهفة إليه.. والتلاعب فى طعام المصريين له تاريخ بداية من فراخ توفيق عبدالحى الهارب حتى الآن وغيره من الذين استوردوا رسائل اللحوم المجمدة المنتهية الصلاحية والمصابة بالميكروبات.. والذين استوردوا زيت الشلجم وسمك فيتنام المسمم وغير ذلك بشع ومنفر وجالب للحزن والأسى.

* بينى وبين القمح حالة حب وعشق..
وعليه أسأل كل من يهمه الأمر.. لماذا لا تعدم أى بضاعة تالفة يثبت عدم صلاحيتها فور انتهاء الإجراءات التى تثبت عدم الصلاحية خاصة المواد الغذائية؟: لماذا لا يقدم جميع المسئولين عن ارتكاب هذه الجرائم إلى العدالة حتى يدفعوا ثمن جرائمهم؟ إننا نطارد تجار المخدرات والقانون حدد لهم عقوبات صارمة تصل إلى الإعدام أحيانا.. لأن المخدرات تدمر صحة الناس.. وهل الطعام الفاسد يؤدى إلى نتيجة أخرى غير ذلك.. فى أيام معدودات قررت الحكومة إعدام الخنازير فى مصر لأنها أصبحت خطرا على صحة المصريين..! فلماذا لا تعدم أى سلعة فاسدة تهدد صحة وسلامة المواطن المصرى..؟ ولماذا لا يكشف عن أسماء وشخصيات تجار الرابش الذى وضع الفساد على رءوسهم أكثر من ريشة فأصبحوا بعيدا عن أى مساءلة أو عقاب..

* بينى وبين القمح علاقة حب وعشق..
فى مكتبتى وفوق رفوف الكتب ومنذ سنوات عديدة أحرص على وضع مجموعة من سنابل القمح داخل إناء صغير وأحرص على استبدالها مع كل موسم حصاد جديد.. حتى أتواصل مع نبات الخير الذى كان رزقا وجمالا وبركة..
أسأل الله أن يلهمنا الصبر على كل هذا البلاء..

وحيد حامد سيناريست وكاتب صحفي
التعليقات