الدبلوماسية الثقافية.. وفائض القوة - قضايا إستراتيجية - بوابة الشروق
السبت 11 مايو 2024 4:00 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الدبلوماسية الثقافية.. وفائض القوة

نشر فى : الأحد 16 يوليه 2023 - 8:35 م | آخر تحديث : الأحد 16 يوليه 2023 - 8:35 م

نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتب عبدالحسين شعبان، تحدث فيه عن العلاقة بين الدبلوماسية والثقافة، وضرورة أن تتواجد الأخيرة فى السفراء لكى تمكنهم من أداء واجبهم وخدمة بلادهم على الوجه الأمثل. تناول الكاتب أيضا كيفية استخدام الدبلوماسية الثقافية كمصدر قوة فى العلاقات الدولية للتأثير على الدول المختلفة، تماما كما فعلت واشنطن لإسقاط الكتلة الاشتراكية، من خلال التغلغل الناعم مما أحدث تغييرا داخل البلدان الاشتراكية نفسها، مستغلة نقاط ضعف نظمها.. نعرض من المقال ما يلى:
إذا كانت الدبلوماسية أداة تنفيذية للسياسة الخارجية للدولة، فإنها تقوم على ثلاثة أبعاد أساسية، أولها ــ سياسية؛ وثانيها ــ اقتصادية؛ وثالثها ــ ثقافية. ومنذ مطلع القرن التاسع عشر، بدأ البعد الثالث يأخذ حيزا كبيرا فى العلاقات الدولية، باعتباره عاملا مُضافا ومؤثّرا فى تحقيق أهداف السياسة الخارجية، وقد أولته الدول والحكومات اهتماما كبيرا، واتسعت مكانته فى القرن العشرين فى ظل الصراع الأيديولوجى والحرب الباردة، بين المعسكرين الاشتراكى بقيادة الاتحاد السوفييتى، والرأسمالى بقيادة الولايات المتحدة، خاصة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
لا أدرى كيف خطر ببالى وأنا أتناول موضوع الدبلوماسية الثقافية، أسماء بعض المثقفين البارزين الذين لعبوا دورا دبلوماسيا أيضا، وأسهموا، بما يمتلكون من ثقافة ومعرفة، فى بلوغ الحد الأعلى من الرسالة الدبلوماسية لبلدانهم، كوسيلة من وسائل تحقيق أهداف السياسة الخارجية. أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: نزار قبانى، الذى احتل موقعا دبلوماسيا مرموقا ممَثّلا لسوريا فى كل من بريطانيا وتركيا والصين وإسبانيا، وقد كان من أشهر مجموعاته الشعرية «الرسم بالكلمات» و«قصائد متوحشة» و«إلى بيروت الأنثى مع حبى» و«أشهد أن لا امرأة إلا أنت»، و«بلقيس» و«هكذا أكتب تاريخ النساء» و«أنا رجل واحد وأنت قبيلة من النساء».
محمد توفيق، السفير المصرى فى واشنطن، الذى ولد فى العام 1956، وكتب رواية «فتاة الحلوى»، عن دور المُخابرات المركزية الأمريكية فى اغتيال العلماء المصريين والعرب، وحين تم تعيينه سفيرا لمصر فى واشنطن، كادت تحدث أزمة دبلوماسية بين البلديْن، وسبق لى أن قرأت له رواية أخرى بعنوان: «ليلة فى حياة عبدالتواب توتو».
ونجد فتحى صفوت الدبلوماسى والمؤرخ العراقى، الذى لبس قبعة الدبلوماسية وقبعة المؤرخ والكاتب، ومن مؤلفاته «اليهود والصهيونيّة فى علاقات الدول الكبرى» و«العراق فى مذكرات الدبلوماسيين البريطانيين» و«الماسونية فى الوطن العربى» و«الجزيرة العربية فى الوثائق البريطانية».
• • •
كان لقيام منظمة اليونيسكو، كإحدى هيئات الأمم المتحدة بعد تأسيسها فى العام 1945، دور كبير فى الاهتمام بالدبلوماسية الثقافية، ولاسيما فى مجال التربية والعلم والثقافة، وهى أدوات للقوة الناعمة، أى بمقدورها إحداث الإقناع المطلوب والتأثير على الآخر عبر القيم والأفكار والفن والثقافة بشكل عام، فليست القوة العسكرية وحدها هى الأداة الجديرة بتحقيق أهداف السياسة الخارجية، وخصوصا فى ظل توازنات دولية دقيقة، بحيث يُصبح اللجوء إلى الوسائل العسكرية، أحيانا، أمرا محفوفا بمخاطر شتى، وقد تعود سلبا على الدولة ذاتها بدلا من تحقيق أهدافها السياسية.
ونظم معرض القاهرة الدولى للكتاب فى العام 2023 حلقة نقاشية بعنوان: «كتابات دبلوماسية»، سلطت الضوء على علاقة الدبلوماسية بالثقافة بشكل عام، والأدب بشكل خاص. ومن نافل القول إنّ الدبلوماسى كلّما امتلك ثقافة واسعة ومعرفة ومعلومات، استطاع أن يقدّم خدمة أكبر لبلده، وخصوصا بما يمتلك من قوة إقناع وحجة وخبرة، والدبلوماسى المثقف المطلع والمُلم بثقافة الآخر ولغته، يعرف نقاط قوته مثلما يعرف نقاط ضعفه فى الآن عَينه. ويعتبر جوزيف ناى أحد الذين كتبوا فى ميدان اللاعنف أن «الدبلوماسية الثقافية» هى أفضل مثال للقوة الناعمة، أى إمكانية التواصل عبر القيم الثقافية والأفكار من دون إكراه أو إرغام، بل عبر الإقناع وجاذبية التأثير والنموذج.
استخدمت الدبلوماسية الثقافية كجزء من فائض القوة فى العلاقات الدولية، وكمادة للصراع فى إطار فرض قيم معينة. وقد حاولت الولايات المتحدة الأمريكية منذ عهد الرئيس كينيدى استخدام نظرية «بناء الجسور» لاختراق الكتلة الاشتراكية، التى قال عنها الرئيس جونسون: إنها جسور ستعبرها البضائع والسلع والأفكار والسياح. وهكذا سعت واشنطن بوسائل التغلغل الناعم والتوغّل الطويل الأمد إلى إحداث التغيير من داخل البلدان الاشتراكية، بعدما فشلت عمليات التغيير من الخارج.
وتمكن الغرب عبر الحرب النفسية ووسائل الضغط الاقتصادى والحرب الإعلامية والأيديولوجية من الإطاحة بالدول الاشتراكية من داخلها، مستغلا نقاط ضعفها، مثل طبيعة نظامها الشمولى التوتاليتارى، القائم على الأحادية الحزبية وعبادة الفرد، وشح الحريات والاختناقات والأزمات الاقتصادية المستمرة، فتمكن من التأثير عليها وزعزعتها على نحو تدريجى.
جدير بالذكر أن التمايز الثقافى، بما فيه الاختلاف، لا يؤدى بالضرورة إلى الصدام، ولكن المصالح الاقتصادية والسياسية والأطماع الجيوسياسية هى الأساس، حتى وإن تم التعبير عنها ثقافيا أحيانا، فى حين أن الثقافة والفن والأدب، بالعكس من ذلك، هى مجال إنسانى وحيوى لتقريب البشر بعضهم من بعض، وليست سببا فى تباعدهم أو بث روح الكراهية بينهم.
وإذا كانت البلدان الصناعية المتقدمة تسعى إلى تصدير ثقافتها وأنماط حياتها وسلوكها الاجتماعى، فإنّ البلدان النامية تسعى إلى حماية تراثها الثقافى، والحفاظ عليه، خشيةً من الاختراقات التى تستهدف كيانها وتهدد وحدتها، من دون أن يعنى الانغلاق، فى عصر لا يمكن فيه وضع حواجز أمام الانفتاح على الثقافة العالمية. والانفتاح لا يعنى تذويب الثقافة المحلية والخصوصية والهوية لحساب الثقافات الكبرى التى تسعى مصالح القوى المتسيدة لفرض الهيمنة من جانبها والاستتباع من جانب الدول والشعوب الأضعف، بقدر ما يعنى التفاعُل معها كظاهرة كونية لا يمكن مجابهتها.
• • •
تسعى العديد من البلدان اليوم إلى تطوير مؤسساتها الدبلوماسية الثقافية، باعتبارها عاملا من عوامل قوة الدولة الكامنة التى لا بد من الاستفادة منها كتعويض أحيانا عن القوة العسكرية أو الاقتصادية، التى كانت تشكل الحيز الأكبر من واقع السياسة الخارجية، وعلى أقل تقدير خط دفاع سلمى مقبول ومعترف به من ضمن إطار القانون الدولى.
وبهذا المعنى، فإننا حين نتحدث عن الدبلوماسية الثقافية، فإنها ليست ترفا فكريا أو لعبا فى الوقت الضائع، بقدر ما هى حاجة ماسة، تقاس نجاحات الدولة وقوتها اليوم بمدى قدراتها الثقافية على تكوين علاقات دولية وتبادل المعلومات والمعارف والفنون، بما يؤدى إلى خدمة الإنسان واحترام حقوقه الأساسية العامة والفردية.
هناك شاعر أمريكى، يدعى كارل ساندبيرج، قد طرح فى ستينيات القرن العشرين سؤالا ملتبسا: أيهما أكثر تأثيرا فى سياسة الولايات المتحدة، هارفرد أم هوليوود؟ والمقصود جامعة هارفرد، التى تأسست فى العام 1636، وسميت باسم رجل الدين البروتستانتى جون هارفرد، وهى أقدم مؤسسة للتعليم العالى فى الولايات المتحدة، فى ولاية ماساتشوستس. أما هوليوود فاشتهرت عالميا بصناعة السينما وشركات الإنتاج والنجوم العالميين. وهى منطقة فى مدينة لوس أنجلوس فى ولاية كاليفورنيا. كان جوابه مثيرا: هارفرد أنظف من هوليوود، لكن هوليوود أكثر تأثيرا من هارفرد فى الوصول إلى أمد بعيد.
وفى ذلك أكثر من مغزى وأكبر من دليل على قيمة الدبلوماسية الثقافية وأدواتها المتنوعة. وإذا كان صرح علمى كبير مثل هارفرد أقل تأثيرا من هوليوود فى نشر القيم الأمريكية، فإن ذلك يعود إلى أن ما تنتجه هوليوود يصل إلى جمهرة واسعة وعريضة من البشر، وخصوصا أن ما يحدثه الفن، يكاد يهيمن على القلوب والعقول معا، فى حين أن المنتج الأكاديمى يبقى محصورا بنخبة محدودة وخاصّة، وما تريده الدول الكبرى، وما تسعى إليه، هو تأمين مصالحها الحيوية عبر التأثير على الآخر، وهو ما تسهم به هوليوود على نطاق واسع.

النص الأصلى:
http://bitly.ws/LrZw

التعليقات