فى ثلاثة أيام من الأسبوع الماضىعرضت اتفاقية تيران وصنافير على لجنتين من لجان مجلس النواب ثم على جلسته العامة، فوافق المجلس على الاتفاقية فى جلسة واحدة. قوبلت مناقشة الاتفاقية فى اللجنة التشريعية بمعارضة شديدة من جانب مجموعة من النوّاب لا يستهان بعددها. هذه المعارضة عكست رفض قطاعات واسعة من المواطنين للاتفاقية، وهو رفض عبر عنه مواطنون رفعوا شأن الاتفاقية إلى القضاء الإدارى الذى حكمت درجتاه الابتدائية والعليا ببطلان الاتفاقية. المواطنون المعترضون قدموا مستندات تفيد أن الجزيرتين مصريتان، ومحامو الحكومة تمسكوا بأنهما ليستا كذلك بدون أى سند لحجتهم ورفضوا الاعتراف باختصاص القضاء الإدارى بالنظر فى القضية. موضوع هذا المقال ليس مصرية الجزيرتين من عدمها، فهذه مسألة يحكم فيها على ضوء التاريخ ممثلا فى المستندات وبتطبيق قواعد القانون الدولى، ولكن المقصودَ به استعراضُ كيف تعامل النظام السياسى المصرى مع القضية برمتها ثم محاولة استخلاص بعض الدروس من هذا التعامل ومن آثاره.
أول مظاهر التعامل مع القضية كان مفاجأة أهل الحكم للشعب بها، وبأن رئيس مجلس الوزراء قد وقّع بالفعل عليها فى شهر إبريل من العام الماضى. هذه اتفاقيةٌ لتحديد الحدود البحرية التى تفصل مصر عن المملكة العربية السعودية يترتب عليها انتقال ممارسة أعمال السيادة على جزيرتى تيران وصنافير من مصر إلى السعودية. للقضية أهمية قصوى وما كان يجوز أن يجرى التفاوض بشأنها فى عدد قليل من الجلسات المتقطعة على سنوات فى تكتم تام وعلى غير دراية من الشعب صاحب السيادة الحقيقى التى تمارس الدولة أعمالها نيابة عنه. وإخفاء أمر الجلسات واستئنافها لدى نهاية سنة 2015 بعد انقطاع لسنوات ليس له إلا واحد من تفسيرين، الأول هو تخوف من ردة فعل شعبية تحول دون استكمال الجلسات التى تقرر مسبقاُ أن تؤدى إلى نقل السيادة على الجزيرتين، والثانى هو التعالى على الشعب ومعاملته على أنه قاصر لم يبلغ سن الرشد بعد ليبلغه الوصى عليه بكيفية تصرفه فى أملاكه.
•••
جوهر النظم السياسية الحديثة هو التخلص من فكرة الوصاية الأبوية وإخضاع الحكم لمتابعة المحكومين ومراقبتهم، متابعة ومراقبة لا تمارسها فقط المؤسسة الدستورية المعنية، وهى البرلمان، وإنما المواطنون المنتظمون فى مؤسسات مجتمعية وفرادى. هذه ليست مسألة أخلاقية وإنما المنطق من ورائها هو أن المتابعة والمراقبة هما السبيلان لضمان أفضل حكم ممكن يحقق مصلحة المحكومين بل والحكام معهم لأنه يكفل لهم اتخاذ القرارات السليمة ويقيهم بذلك من تبعات فشل ليس أى حاكم معصوما منه.
بعد أن وجه الإعلان عنها بأشكال متعددة للرفض، اختفت الاتفاقية لسنة كاملة ثم عادت للظهور منذ ما يقرب من العشرين يوما. لتهيئة المسرح السياسى لهذا الظهور جرى القبض على عدد من الشباب من أعضاء الأحزاب فى محافظات مختلفة، ثم حجب تباعا ما يقرب من العشرين موقعا إخباريا على الإنترنت. لا تجاوز فى افتراض أن كلا من القبض على الشباب وحجب المواقع كان للحيلولة دون تعبئة الناس عبر تنظيم فعاليات من جانب، ونشر أخبار أو تعليقات مناهضة للاتفاقية عندما ترجع إلى المسرح السياسى، من جانب آخر. ولمزيد من الاحتياط فى تهيئة المسرح، أبعد عدد من النوّاب المعارضين للاتفاقية عن مصر بإرسالهم فى بعثة برلمانية إلى الولايات المتحدة!
عودة الاتفاقية إلى المسرح السياسى كانت هى نفسها موضوعا لخلاف جذرى لأنها فى نظر الكثيرين من أصحاب الآراء الرصينة كانت قد أصبحت عدما بمقتضى حكمى القضاء الإدارى. ولم تقدر الحكومة على مجرد الصبر حتى تفصل المحكمة الدستورية فى التنازع بين حكمى القضاء الإدارى ومحكمة الأمور المستعجلة بل أحالت الاتفاقية إلى البرلمان الذى لم يجد غضاضة فى قبول النظر فيها بل ذهب رئيسه إلى حد الإعلان عن عدم الاعتداد بأى حكم يصدر، بما يعنى عدم الاكتراث لا بحكم القضاء الإدارى ولا بالحكم المنتظر للمحكمة الدستورية ذاتها. هذا فى حد ذاته تهديد خطير للنظام السياسى وقواعده من قلبه المفترض فيه حمايته. فلما عرضت الاتفاقية على مجلس النوّاب بالفعل، كان المشهد مؤسفا.
•••
أيا كان الموقف منها، فإن الاتفاقية حدث جلل كان يحتّم مناقشتها بما تستحقه ويليق بالشعب، صاحب السيادة، من وقار. أول الملحوظات هو أن الاتفاقية لم تناقش فعبارة «أحالت الاتفاقية إلى البرلمان» المذكورة أعلاه فيها تجاوز كثير. حقيقة الأمر أن الحكومة أحالت إلى البرلمان عنوان الاتفاقية مصحوباُ بتسريبٍ هو أنها ستؤدى إلى نقل ممارسة السيادة على تيران وصنافير إلى المملكة السعودية. أما نص الاتفاقية ذاته فلم يعرض على البرلمان. الحكومة طلبت من نواب الشعب أن يوافقوا على اتفاقية لا يعرفون إلا عنوانها وما ستؤدى إليه. والحقيقة هى أن هذه ممارسة ليست جديدة على الحكومة ومجلس النواب هذين. الاتفاقية المبرمة منذ شهور مع صندوق النقد الدولى لم يعرض منها على مجلس النوّاب، الذى وافق عليها، إلا عنوانها. لا يستقيم نظام سياسى دون اضطلاع مؤسساته فعليا بوظائفها. مجاراة السلطة التنفيذية وعدم مساءلتها عن أدائها ليس خدمةً لها بل هو تقاعسٌ عن مساندتها وعن تقويم قراراتها إن اعتلت. حقيقة الأمر هى أن مجلس النوّاب لم يوافق على الاتفاقية لأنها لم تعرض عليه أصلا. مسئولية مجلس النوّاب أفدح من مسئولية الحكومة لأنه تنازل طواعية عن النظر فى أحكام الاتفاقية. لو كان قد طلب نص الاتفاقية، ربما زودته الحكومة به!!
عُرِضَ عنوان الاتفاقية والغرض منها على اللجنة التشريعية فاستغرقت يومين فى مناقشتهما فى ظل هرج ومرج ومشادات وحيلولة دون أن يعبرّ النواب المعارضون عن مواقفهم واتهامهم، ويا للعجب، بالخيانة لأنهم يدافعون عن مصرية الجزيرتين. انتهى الأمر كما كان متوقعا بموافقة اللجنة على العنوان والغرض وإحالتهما إلى لجنة الدفاع والأمن القومى والتى، على الرغم من فخامة اسمها وخطورة موضوع الاتفاقية، ناقشتها ووافق جميع أعضائها عليها باستثناء اثنين فى خمس وعشرين دقيقة! وخلال ساعات كانت الجلسة العامة قد ناقشت «الاتفاقية» وأغلق رئيس المجلس باب المناقشة قبل أن يتحدث عشرات النواب كانوا قد طلبوا الكلمة. وانتقلت الجلسة العامة إلى التصويت على «الاتفاقية» فوافقت عليها الأغلبية المريحة المسايرة للسلطة التنفيذية وإن رفضها عدد معتبر من النوّاب. يلاحظ أن التصويت لم يكن بالمناداة على الأسماء، بل وقوفا، رغم خطورة الموضوع، «لأن استمارة التصويت بالمناداة على الأسماء مفقودة»! ولم تنقل وقائع الجلسات ذات الأهمية التاريخية القصوى على التلفزيون لكى يكون المواطنون شهودا عليها وعلى مناقشاتها. المفترض فى السلطة التشريعية أن تضطلع بوظائفها بجدية لكى تخدم حقا وبكفاءة نظامها السياسى وليس أن تمثِّل أنها تضطلع بهذه الوظائف. التعبير عن المعارضة لا يضير النظام السياسى القوى بل هو يدعم شرعية الموقف الذى تتخذه الحكومة طالما كفلت الأغلبية لنفسها. أغلبية 60 % أقوى سياسيا من أغلبية الـ90%.
خلاصة الأمر أن السلطة التشريعية لم تضطلع بوظيفتيها الرقابية والتمثيلية، ظنا منها أنها تدعم النظام السياسى، بينما هى بسلوكها تقوّضه. أسباب التقويض تكمن فى التناقض الصارخ بين رضا مجلس النوّاب الذى يعبر عنه الموافقة على «الاتفاقية» بدون مناقشة لأحكامها وبسرعة البرق، من جانب، وموقف الرأى العام، خاصة الشباب والمتعلمين منه، من الاتفاقية، من جانب آخر. الاستطلاع الذى أجراه مركز دراسات الرأى العام «بصيرة» فى أثناء مناقشة اللجنة التشريعية لها وعلّقت عليه أقلام كثيرة فى الأيام الماضية، كشف عن الدرجة العميقة لمعارضة الاتفاقية فى مصر. إن استبعدنا من أجابوا عن الأسئلة «بلا أعرف»، سنجد أن 81% من المصريين يعتبرون أن الجزيرتين مصريتان، بمعنى أنهم يرفضون الاتفاقية، ونسبة ال58ـ % ترفض تسليم الجزيرتين للسعودية حتى إن وافق مجلس النوّاب عليه.
الصورة تزداد وضوحًا إن حلّلنا الاتفاقية على ضوء خاصيتين من خصائص المشتركين فى الاستطلاع، وهما المجموعة العمرية والمستوى التعليمى. باستبعاد من ردّوا «بلا أعرف»؛ فإن 82% ممن هم فوق سن الخمسين و85% من المواطنين فيما بين 30 و49 سنة يعتبرون الجزيرتين مصريتين. فى هذه المجموعة العمرية الأخيرة ولدى من هم أقل من 30 سنة، 56% و59% على التوالى يرفضون تسليم الجزيرتين حتى إن اعتبرهما البرلمان سعوديتين. أما بمعيار المستوى التعليمى فإن 85% و73% من الحائزين على تعليم أقل من المتوسط ومتوسط و82% من أصحاب الشهادات الجامعية فأعلى، يعتبرون الجزيرتين مصريتين. أما عن تسليم الجزيرتين فى حال وافق المجلس على ذلك، فإن 66% و51% و48% من الحائزين على تعليم أقل من المتوسط ومتوسط وجامعى على التوالى يرفضونه. أهمية النظر فى موقف الشباب هو أن المستقبل له وأن نسبة الشباب بين السكان فى ارتفاع نتيجة لارتفاع معدلى الخصوبة ونمو السكان، وهو ما يعنى أن المعارضين سيزيدون فى المستقبل. ورفض الاتفاقية بالذات واضح عند كل المستويات التعليمية، ولذلك أهميته القصوى لأن المتعلمين هم عصب كل من الأنشطة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فإن وضعنا نتائج المجموعات العمرية الشبابية والتعليم معًا وأخذنا فى الاعتبار أن التعليم فى توسع لأدركنا أن معارضة الاتفاقية لن يكون سبيلها الانحسار. أما رفض تسليم الجزيرتين فى كل الأحوال فهو تعبير عن بذور فرقة بين مصر والسعودية زرعتها الاتفاقية عند مدخل خليج العقبة والبلدان فى غنى عنها تماما.
الانتصار فى قاعة مغلقة خادع. مقياس الانتصار بمضاهاته مع البيئة الخارجية التى توجد فيها هذه القاعة.
بتكتم السلطة التنفيذية على الاتفاقية والامتناع عن عرض نصها على البرلمان، وبمناقشة هذا الأخير «لها» وموافقته السريعة عليها، لم يخدم المتكتمون ولا الموافقون النظام السياسى الذى يفترض أنهم يعملون على ضمان استمراريته.