الحياة: كومباوند ومستشفى ومحمول - داليا شمس - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 10:08 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الحياة: كومباوند ومستشفى ومحمول

نشر فى : السبت 18 مايو 2019 - 9:45 م | آخر تحديث : السبت 18 مايو 2019 - 9:45 م

الإعلانات التي تطاردنا يوميا، خاصة طوال رمضان في فترة ما بعد الإفطار، وارتفاع وتيرتها مع زيادة عدد المسلسلات، لا تقوم بالدعاية فقط عن منتج تجاري ما، لكنها أيضًا تشي بالكثير عن المجتمع الذي يستهلك هذه السلع، فهي مرآة لتغيرات السلوك والقيم والأحلام. نتابع عن كثب، من خلال الفقرات الإعلانية الطويلة، مجتمع يتأرجح ما بين حلم رفاهية الكومباوند بمساحاته الخضراء وملاعبه ونواديه، وما بين تبرعات الغلابة لشراء ملابس أو بناء مستشفيات خيرية، وما بين باقات المحمول والإنترنت وعلب السمن ومساحيق الغسيل، مجتمع يقوم على التكافل والتضامن إلى حد بعيد، ولولاهما لكان مصير حوالي 80% من السكان أسوأ مما هو عليه بكثير. ومن هنا ظهرت نكتة على الفيسبوك مفادها: "فليتبرع أصحاب الكومباوند لمن هم في حاجة إلى العلاج بالمستشفيات المجانية، ويتركونا في حالنا"، وذلك تعبيرًا عن الملل الذي أصاب المشاهد العادي من طوفان الإعلانات التليفزيونية، التي تشكل ملامحه وتطلعاته وثقافته دون أن يدري بسبب فنيتها وسردياتها وقدرتها على الإقناع وتكرارها، والتي لا تقوم أي جهة ضابطة بالتحكم في نسبتها وسرعة تدفقها ومحتواها، بخلاف معظم بلدان العالم.
الإعلانات المصرية التي نتابعها تعكس خفة دم أحيانًا وقدرة عالية على الابتكار، كما تعكس صورتنا الحالية والصورة التي نصبو إليها... أحلام ورغبات وواقع، وما بينهما صحراء قاحلة بكل ما تمثله من مجهول. هي تساهم في خلق احتياجات، أحيانًا زائفة، وفي توحيد الذوق العام، وفي تغيير نمط الحياة، من خلال تقديم الاستهلاك على أنه تقدم اجتماعي يواكب العصر ويهدف إلى الوصول للنشوة والسعادة. لذا يقارنها البعض بالشعر الذي يجمل اللغة، فيعلق آخرون أن الشعر له بعدًا دراميًا وتراجيديًا أما الإعلان فهو دائمًا إيجابي ويعد بمستقبل باهر.
***
في الإعلان تنتهي مشاكل المرور والزحمة بالسكن في الكومباوند، وتنتهي أزمة الزواج بمجرد شراء الأدوات الكهربائية من الماركة الفلانية، وتنتهي مشكلة المذاكرة والنجاح في الدراسة بشرب فنجان قهوة سريعة الذوبان، والحياة الزوجية تصبح على خير ما يرام بسبب الطبخ بسمنة معينة أو التخلص من بقع الملابس باستخدام مسحوق غسيل جديد، وهكذا دواليك. ولا تتردد الشركات العالمية في طرح حملات إعلانية مصممة خصيصا للمجتمع المحلي، فتغازل الجماهير العريضة بموسيقى المهرجانات أو الإليكترو- شعبي وتستعين بالنجوم المحبوبين، ليردد الناس معهم الشعارات التجارية الجذابة. وعلى هذا النحو يمكن لمن هو مهتم بالدراسات الاجتماعية والثقافية أن يحلل ويؤرخ لهذه الإعلانات فيصل لصورة صادقة تلخص تحولات مجتمع ما، من خلال متابعة تطور إعلانات كوكاكولا مثلا على مدار خمسين سنة، فقد أهدت الشركة عام 2000 تسجيلات لإعلاناتها المذاعة حول العالم خلال نصف قرن من الزمان، لمكتبة الكونجرس الأمريكية: أكثر من عشرين ألف دقيقة، أي بمعدل إعلان يومي لكوكاكولا تقريبا. وفي ذلك مؤشر لدرجة اهتمام الشركة بترسيخ صورتها في الأذهان، وتكييف المحتوى وفقا للخصوصية الثقافية لكل مجتمع.
ورغم تعدد الوسائط الإلكترونية وخلافه في ظل التطور التكنولوجي، إلا أن التليفزيون لا يزال أكثر الوسائل تأثيرا فيما يتعلق بالإعلان، وهو ما كان لا يمكن توقعه عند ظهور أول إعلان في بابل حوالي ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد، عندما أراد صانع أحذية أن يعدد مزايا بضاعته، وأعلن عن متانتها حول دكانه. بعدها ظهرت الإعلانات لدى اليونان والرومان، من خلال نداءات الباعة واللافتات، إلخ. لكن إرهاصات نظام حقيقي للإعلانات لم يعرفها الغرب سوى في القرن السابع عشر، على يد البرجوازية، مع التطور الذي شهدته فكرة الدولة وظهور المجتمع المدني. وفي مرحلة تالية، طرأ على الإعلانات تطور هام مع انتشار الصحف في القرن التاسع عشر، وقد حاول البعض وقتها استخدام إعلانات الصحافة المكتوبة لتحقيق توافق وتوازن بين مصالح الأغنياء والفقراء داخل المجتمع الأوروبي.
***
لم ينتبه علماء الاجتماع مبكرا لدراسة الإعلانات، حتى نشر الباحث الروسي المهتم بالدعاية السياسية، سيرج تشاخوتين، كتابه الشهير "اغتصاب الجماهير" عام 1939، و كان يركز بالأحرى على البروباجندا في فترة النازية، ومن بعده توالت الأبحاث في هذا المجال وتنوعت، لكن ظل السوق الإعلاني محدودًا نوعًا ما حتى عرف طفرة في سبعينات القرن الفائت. ثم كانت مرحلة مختلفة تماما في الفترة من 1985 إلى 1990، وهو ما يمكن ملاحظته وتطبيقه على مصر أيضًا، حيث زادت جرعة السخرية وخفة الظل والمرح، لخلق تواطئ وتفاعل أكبر مع الجمهور، وكانت العديد من الإعلانات التي نحفظها عن ظهر قلب، وتميز بين الأجيال المختلفة. كنز لمراقبة تطورات المجتمع عن جد، من شكل ودور المرأة إلى نوعية الملابس والموضات إلى طبيعة النكات وروح السخرية وأنواع الموسيقى إلى نوعية الرسائل الإعلانية التي تستهدفنا جميعا للترويج عن بضاعة وأشياء معينة، والأفراد يحاولون تغيير المسار الاجتماعي للحصول على هذه المنتجات، بعضهم يبحث عن مكانه، وبعضهم لا يراوح مكانه.

التعليقات