منذ اكتشاف أولى حالاته فى مدينة (ووهان) الصينية فى ديسمبر 2019، لا يزال فيروس كورونا المستجد يشكل تحديا غير مسبوقٍ للنظم الصحية والاقتصادية لدول العالم على حد السواء. فمنذ أعلنته منظمة الصحة العالمية فى فبراير جائحةً عالمية، تسارع انتشار الفيروس خلال أسابيع قليلة ليضرب حوالى 210 دول، متسببا حتى الآن فى إصابة ما يزيد عن ثلاثة ملايين ونصف المليون شخص ووفاة أكثر من 245 ألف حالة حول العالم. وفى الوقت الذى ينشغل فيه علماء الأوبئة وخبراء الصحة بمحاولات إيجاد أمصال علاجية لاحتواء الجائحة؛ تتزايد مخاوف الاقتصاديين بشأن أضرارها الكائنة والخسائر المحتملة على الأنشطة الاقتصادية والأسواق المالية وأسواق العمل. ففى أعقاب تفشى الجائحة، انتاب الاقتصاد العالمى حالةٌ غير مسبوقة لم يشهدها منذ الكساد العظيم فى ثلاثينيات القرن الماضى، حيث تسبب انتشار الفيروس فى إعاقة حركة التجارة العالمية، وضعف الطلب العالمى، لا سيما الطلب على النفط، وإصابة قطاعات اقتصادية وإنتاجية بالشلل التام. كما أدت سرعة انتشار الوباء وانتقاله بين الدول إلى ارتفاع مستويات اللا يقين وتدنى مستويات الثقة؛ مما تسبب فى انهيار العديد من الأسواق المالية العالمية الرئيسية وتراجع مؤشراتها لمستويات قياسية.
وبنظرة سريعة إلى التحليلات الاقتصادية المتعلقة بآثار الجائحة على المستوى المحلى المصرى، نجد أن أغلبها قد ركزت على تداعيات انتشار الفيروس على النمو الاقتصادى وحركة الأسواق المالية؛ فى حين أغفلت هذه التحليلات إلى حدٍ بعيد انعكاسات الجائحة على القطاعات الزراعية والنظم الغذائية، وما ينبنى على ذلك من تأثيرات على مستويات الفقر والأمن الغذائى. وبالنسبة لدولةٍ مثل مصر، لا شك أن تجاهل انعكاسات الجائحة على الأمن الغذائى يشكل خللا ضخما قد يؤثر سلبا على مساعى الدولة لتحقيق أهداف استراتيجية التنمية المستدامة 2030 المتعلقة بمكافحة الفقر والقضاء على الجوع وتحقيق الأمن الغذائى، لا سيما وهناك ما يقرب من 32% من المصريين يعيشون تحت خط الفقر (نشرة الدخل والإنفاق للجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، 2017)، علاوةً على 20% آخرين يدورون حول فلكه. فقد أجمعت التقارير الأولية لمنظمة الأمم المتحدة للزراعة والغذاء وبرنامج الغذاء العالمى أن هذه الجائحة ستكون لها تأثيرات شديدة على المحاور الأربعة الرئيسية التى يرتكز عليها تحقيق الأمن الغذائى فى الدول النامية، وهى توافر الأغذية، وإمكانات الحصول عليها، واستخدامها والبعد التغذوى لها، واستقرار إمداداتها. وفى السطور التالية، نستعرض بعض القنوات التى قد تنتقل من خلالها التأثيرات الاقتصادية للجائحة لتنعكس على الأمن الغذائى فى مصر.
***
أولا: فى ظل حالة اللا يقين التى هيمنت على السوق العالمية للسلع الزراعية والغذائية فى أعقاب انتشار الفيروس، اتجهت بعض الدول المصدرة للغذاء، كأوكرانيا وروسيا وكازاخستان، إلى تقييد التصدير تحسبا لنقص الإمدادات فى أسواقها المحلية. وبالنسبة لمصر، باعتبارها مستوردا صافيا للغذاء وتعتمد على السوق العالمية فى تلبية حوالى 45% من احتياجاتها الغذائية، فقد يؤدى تقييد حركة التجارة العالمية الزراعية إلى نقص المعروض وارتفاع أسعار السلع الغذائية الأساسية؛ وقد لا تستطيع المخزونات الاحتياطية الصمود طويلا إذا استمر انتشار الفيروس لمدد أطول؛ مما قد يشكل تهديدا للأمن القومى والسلم الاجتماعى.
ثانيا: أشارت التوقعات المبدئية لمنظمة التنمية والتعاون الاقتصادى إلى احتمالية تباطؤ النمو الاقتصادى العالمى إلى ما بين 0,5% و1,5% خلال العام الجارى 2020. كما أشار تقرير لمنظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد) خلال شهر مارس 2020 أن تراجع النمو الاقتصادى العالمى إلى ما دون 2% قد يكلف خسائر اقتصادية فى حدود تريليون دولار ستتحمل تبعاتها جميع دول العالم بدرجات متفاوتة. وقد بدأت بالفعل تبعات هذا التباطؤ الاقتصادى على الدول النامية فى الظهور، فقد شهدت الدول المصدرة للعمالة ومن بينها مصر تباطؤا فى تحويلات العاملين بالخارج بسبب حالات التسريح من العمل، وتأخر دفع الرواتب فى الدول التى يعملون بها. كما أنه من المتوقع أن يؤدى تباطؤ النمو الاقتصادى العالمى وتعطل حركة التجارة العالمية إلى تأثيرات شديدة فى جانب العرض؛ حيث تعتمد مصر كغيرها من الدول النامية على مدخلات الإنتاج والمواد الخام المستوردة؛ مما سينعكس سلبا على معدلات الإنتاج ومستويات التوظيف. كذلك، فقد يؤدى هروب الاستثمارات الأجنبية المباشرة والأموال الساخنة، وهى أمور متوقعة فى مثل هذه الظروف، إلى تراجع أسعار صرف العملة المحلية؛ مما سيجبر الحكومة على تحمل أعباءٍ إنفاقيه إضافيةٍ ويفاقم مشكلات سداد أقساط وأعباء خدمة الديون الخارجية ويشدد الشروط الائتمانية لحصولنا على قروض جديدة. وفى ضوء هذه التأثيرات؛ فقد أشار نموذج المعهد الدولى لبحوث السياسات الغذائية أن كل 1% تراجع للنمو الاقتصادى العالمى قد يستتبعه ارتفاع فى عدد الأفراد الذين يعيشون فى فقر أو فى حالة انعدام الأمن الغذائى بنسبة 2٪، وقد ترتفع هذه التقديرات فى دولة كمصر بسبب المشكلات الهيكلية المزمنة التى تعانيها قطاعاتها الاقتصادية بصرف النظر عن فيروس كورونا.
ثالثا: قد تلجأ الحكومة إلى تشديد إجراءاتها الاحترازية فى حال استمرت أعداد الإصابات فى التزايد؛ مما قد ينتج عنه تحديات لوجستية واضطرابات فى سلاسل الإمداد الغذائى وعرقلة لقدرات المنتجين على توصيل منتجاتهم إلى المستهلكين. وقد أشار بعض الخبراء إلى أنه قد يتأثر إنتاج بعض المحاصيل إذا استمر تفشى الفيروس خلال الموسم الزراعى الحالى والقادم. وفيما يتعلق بالاستهلاك، فقد تؤدى التدابير الصحية إلى إثارة الذعر فى أسواق الغذاء وتزايد إقبال المستهلكين على شراء وتخزين المنتجات الغذائية؛ مما قد يحدث صدمة مصطنعة بأسواق الغذاء تسبب نقص إمداداته وارتفاع أسعاره. فعلى سبيل المثال، خلال تفشى مرض السارس فى 2003، وجدت بعض الدراسات علاقة بين التغير المفاجئ فى النمط الاستهلاكى للمواطنين فى الدول الموبوءة وتفاقم مشكلات نقص وارتفاع أسعار السلع الغذائية.
رابعا: هناك مخاوف متزايدة من تأثير الجائحة على أسواق العمل المحلية وخصوصا أسواق العمل الزراعية والأسواق غير الرسمية مما يشكل تحديا ضخما للحكومة فيما يتعلق بتأمين الاحتياجات الغذائية للمتضررين وخصوصا فى ظل ضعف برامج الحماية الاجتماعية. فرغم عدم وجود تقديراتٍ دقيقة، فقد أشارت دراسة أولية لمنظمة العمل الدولية إلى تأثر حوالى 81% من القوى العاملة العالمية بسبب الإغلاق الكلى أو الجزئى لأماكن العمل، وهو ما قد يفقد سوق العمل العالمى حوالى 200 مليون وظيفة. فمن المتوقع أن ما يقرب من مليار وربع المليار شخص ممن يعملون فى القطاعات الأشد تضررا بالجائحة، كالسياحة وخدمات الإقامة والطعام، والصناعات التحويلية، وتجارة التجزئة، وأنشطة الأعمال والأنشطة الإدارية والتى تشكل ما نسبته حوالى 38% من التوظيف العالمى، سيكونون عرضةً لمخاطر التسريح وتخفيض الأجور. وبالنسبة لمصر، حيث تشير بيانات التعداد الاقتصادى إلى أن القطاع غير الرسمى يستحوذ على 53% من المنشآت الاقتصادية، فإن الكثير من العاملين فى القطاعات الأكثر تضررا سيتعرضون لصدمات شديدة ومفاجئة فى دخولهم؛ لا سيما وجانب كبير منهم يعملون فى وظائف متدنية الأجور وبشكل غير منظم داخل هذه القطاعات؛ مما سيتسبب فى خفض قدراتهم الشرائية وسيمثل عائقا لحصولهم على أغذية كافية ومتوازنة تلبى احتياجاتهم الغذائية.
***
وفى ضوء ما سبق؛ فإن التأثيرات الاقتصادية للجائحة تنذر بتداعياتٍ سلبية خطيرة على جهود الحكومة الهادفة إلى القضاء على الجوع وسوء التغذية وتحقيق الأمن الغذائى المستدام سيحدد مداها وعمقها مدى الانتشار الزمانى والمكانى للفيروس. وبناءً عليه، فإنه من الضرورى خلال المرحلة الحالية (المدى القصير) العمل على ضمان التدفق السلس للسلع الغذائية والاستفادة الكاملة من إمكانات السوق الدولية لتأمين العرض والطلب الغذائى، وذلك بتخفيض التعريفة الجمركية على واردات الغذاء لضمان استقرار إمداداته وأسعاره. علاوةً على ذلك، فينبغى أن تتضافر جهود الدولة المصرية مع غيرها من الدول النامية المستوردة للغذاء لحث المجتمع الدولى ومنظماته على مكافحة السياسات الحمائية التى قد تتخذها الدول المصدرة للسلع الزراعية والتى قد تفاقم الأزمات التى تواجه سلاسل القيمة الغذائية العالمية.
أما على المستوى المحلى، فيجب الاستمرار فى المراقبة الدقيقة لمستويات أسعار المواد الغذائية وتشديد إجراءات الإشراف والرقابة على أسواق السلع الغذائية. فمن خلال المعرفة الدقيقة بتحركات الأسواق، ستتمكن الحكومة من الإدارة المتكاملة للسوق بتوجيه المزارعين والمنتجين لاتخاذ قرارات الإنتاج المنطقية، ومكافحة عمليات المضاربة فى مراحل سلاسل الإمداد الغذائى، إلى جانب متابعة جودة المنتجات الغذائية وسلامتها، ومنع ممارسات المنتجين والمستهلكين التى قد تأثر سلبا على الأسواق الغذائية. كذلك، فمن الضرورى العمل على إيجاد وسائل للدعم الفورى للمزارعين والمنشآت الإنتاجية الزراعية والغذائية، كتقديم إعانات مؤقتة للمزارعين ودعم مدخلات الإنتاج، وخفض تكاليف التمويل وتيسير شروط الحصول عليه، وتخفيض أو تأخير فواتير الضرائب والتأمين والإيجارات. وبالتوازى مع ذلك، ينبغى أن تضع الحكومة حماية الفئات الفقيرة وذوى الدخول المحدودة على رأس أولوياتها فى المرحلة الحالية وذلك بتدعيم شبكات الأمان الاجتماعى وتقديم التحويلات النقدية والخدمات الطبية المجانية للفئات الأكثر احتياجا مما قد يساعد فى تطويق تفشى المرض والحد من أضراره على الأمن الغذائى.
وأخيرا، فقد أظهرت هذه الجائحة عورات القطاع الزراعى المصرى وعوار سياساته الإنتاجية التى جعلت مصر مستوردا صافيا للغذاء، وجعلت أمنها الغذائى فى مهب رياح الأسواق الدولية وتقلباتها بسبب الأزمات الاقتصادية وانتشار الأوبئة، وهى أزماتٌ من المتوقع أن تتكرر موجاتها مستقبلا لا سيما فى ظل الاضطرابات السياسية والاقتصادية العالمية والإقليمية وسيناريوهات التغير المناخى وتأثيراتها على الموارد الطبيعية. ومن ثم، فهناك ضرورة ملحة إلى إعادة النظر فى السياسة الزراعية المصرية والحوكمة الجيدة للقطاع الزراعى؛ بحيث يكون الهدف على المدى الطويل هو إعادة بناء النظم الزراعية والغذائية بشكل يجعلها أكثر أمانا وعدلا واستدامةً.