عودة إلى إريك رولو! - عبد الله السناوي - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 2:37 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عودة إلى إريك رولو!

نشر فى : الأحد 19 يونيو 2022 - 7:45 م | آخر تحديث : الأحد 19 يونيو 2022 - 7:45 م
بدا الصحفى الفرنسى «إريك رولو» مأخوذا بحميمية الاستقبال الذى كان بانتظاره فى مطار القاهرة الدولى مدعوا صيف (1963) لإجراء تحقيقات ميدانية لصالح صحيفة «لوموند» إحدى أكثر الصحف العالمية نفوذا وتأثيرا.
بدت الدعوة نفسها مثيرة وملغزة أمامه، فهو يهودى مصرى الأصل نفى قبل ثورة يوليو بشهور قليلة إلى فرنسا على خلفية نشاطه اليسارى.
لم يكن مسموحا له بزيارة القاهرة، ولا أية عاصمة عربية أخرى، رغم أن عمله مديرا لقسم الشرق الأوسط فى الصحيفة الفرنسية الشهيرة يقتضى المتابعة عن قرب لحركة الحوادث العاصفة.
كان هناك فى القاهرة من يتابع ما يكتبه من تحقيقات ومقالات تتبنى المعارك التى تخوضها ثورة يوليو فى نصرة حركات التحرير الوطنى فى العالم العربى والقارة الإفريقية، ورأى أن مصلحة البلد تقتضى فتح قنوات حوار معه رغم أنه لم يكن يرى مبررا لـ«مصادرة الحريات العامة وخرق ما يسمى فى أيامنا هذه بحقوق الإنسان».
أراد «رولو» دوما أن يسأل ويتقصى «أوضاع المعتقلين الشيوعيين فى مصر» ومتى يُفرج عنهم، لكن لم تكن لديه فرصة حوار من قريب أو بعيد.
لماذا الآن؟
قدر أن مصر تريد أن تطوى صفحة الصراع مع فرنسا بعد استقلال الجزائر، وأن تفتح أبوابها أمام أكثر الصحف الفرنسية تعبيرا عن سياسات ومواقف الرئيس «شارل ديجول» لإذابة الجليد بين البلدين.
وقع الاختيار عليه باقتراح من الكاتب اليسارى المعروف «لطفى الخولى»، الذى التقاه فى باريس ليدعوه باسم الأستاذ «محمد حسنين هيكل» رئيس تحرير «الأهرام» أن يزور القاهرة مؤكدا أن كل التسهيلات سوف تكون رهن تصرفه لإجراء تحقيقات صحفية، وأنه سوف يكون حرا تماما فى تحركاته وفى الاتصالات التى يرغب فى إجرائها، شاملة المعارضين لنظام الحكم فى مصر.
إدارة التحرير فى «لوموند» أبدت حماسها للعرض المصرى وأصرت بالوقت نفسه أن تتكفل وحدها بتكاليف السفر وفق التقاليد المهنية المتعارف عليها.
بشهادة وزير الخارجية الجزائرى الأسبق «الأخضر الإبراهيمى»، الذى كان سفيرا للجزائر فى ذلك الوقت بالعاصمة المصرية: «رولو أولا وقبل كل شىء صحفى همه الرئيسى أن يفهم القضايا التى يكتب فيها فهما كاملا وموضوعيا».
مرة بعد أخرى أبدى خشيته من أن تفرض عليه أية قيود فى تحركاته وتصرفاته طلبا لحياديته وموضوعيته المهنية، أن يكتب ما يعاين بنفسه، سواء اتفق ما يتوصل إليه من استنتاجات مع آراء الحكم فى مصر أو لم يتفق.
«إن هيكل يفكر بنفس الطريقة ويفضل التعامل مع الشخصيات المستقلة التى تتمتع بحرية التفكير».
هكذا أخبره «الخولى»، وهو ما أكدته الأيام التالية.
مساء اليوم التالى لوصوله القاهرة التقى «هيكل»، طرح تصوراته وتساؤلاته وما ينتوى أن يسأل فيه الرئيس إذا كان الحوار معه ممكنا من قضايا محرمة أولها ملف المعتقلين وما يتعرضون له من انتهاكات لحقوقهم الإنسانية.
فى ذلك اليوم البعيد كان تقديره، كما كتب بمذكراته «فى كواليس الشرق الأوسط»: «إن المعتقلات تحجب الجوانب الإيجابية فى سياسة الحكومة المصرية بأعين الرأى العام العالمى».
فوجئ بأن «هيكل»، الذى وصفه بأنه رجل حاد الذكاء، وافقه على تحفظاته بوضوح كامل.
الرجلان «هيكل» و«رولو» من جيل واحد، الأول ــ من مواليد (1923) والثاني ــ من مواليد (1926).
بتوقيت متقارب دخلا العمل الصحفى عبر جريدة الـ«إيجيبشيان جازيت» التى كانت تصدر بالإنجليزية فى القاهرة.
«هيكل» غطى حرب العلمين (1942) قبل أن ينتقل إلى «آخر ساعة»، التى كان يترأسها أستاذه «محمد التابعى».. و«رولو» انضم إليها (1943) لتغطية قصص وأخبار سياسية واجتماعية قبل أن ينتقل إلى «لوموند» بعد فترة قصيرة من البطالة فى المنفى الباريسي!
كان «رولو» يكتب فى «الجازيت» باسمه الأصلى «إيلى رافول» قبل أن يتفرنس بالكامل ويطلق على نفسه الاسم الذى عرف به.
يستلفت النظر فى مذكراته عنوانها الفرعى: «مذكرات صحفى بجريدة لوموند»، لا قال رئيس تحرير ولا دبلوماسى عريق عمل بالقرب من الرئيس الاشتراكى «فرنسوا ميتران» ولا أب روحى لجيل من القيادات الاشتراكية بينهم «سيجونيل رويال» المرشحة الرئاسية التى كسبها «نيكولاى ساركوزى» عام (2007) و«فرنسوا أولاند» الذى كسب الانتخابات التالية.
إنه صحفى وكفى.
إنه نفس نهج الأستاذ «هيكل» نفسه فى النظر إلى دوره فى الحياة السياسية المصرية والعربية ــ «جورنالجى» دون أية أوصاف أخرى.
فى لقائه الأول مع «عبدالناصر» أخذته بساطة منزله المتواضع نسبيا وأثاثه الذى يشبه بيوت الطبقة الوسطى فى حى مصر الجديدة، الذى ولد وعاش فيه لأكثر من عشرين سنة.
التبسط بلا افتعال غلب اللقاء الأول حتى خُيّل إليه أن الجو العام مناسب لطرح سؤاله الأكثر حساسية بين أسئلة أخرى كثيرة، سؤال المعتقلين السياسيين.
كان «عبدالناصر» يتوقع السؤال، ربما خططت الزيارة كلها للإجابة عليه.
أجابه: «قررت الإفراج عن جميع السجناء السياسيين قبل نهاية هذا العام».
جملة صريحة ومقتضبة دوت فى العالم كله من فوق منبر «لوموند».
«وحين أنظر فى الماضى أدرك أن إغلاق المعتقلات لم يكن سوى إجراء بين إجراءات أخرى تنم عن رغبة عبدالناصر فى طى تلك الصفحة.. أو أنها خطوة منطقية فى تسلسل الإصلاحات التى تعمل على تجديد النظام وتقويته».
فى تقديمه لمذكرات «رولو» تساءل «الأخضر الإبراهيمى»: «هل وقع الصحفى أسيرا لكاريزما عبدالناصر؟».
«ربما.. إلا أن الود المتبادل بين الرجلين لم يؤثر على موضوعية الصحفى وحسه النقدى».
بعد أن أغلقت المعتقلات بالإفراج عن الشيوعيين المصريين فتحت من جديد لـ«الإخوان المسلمين» عام (1965) إثر إجهاض مخطط ما يعرف بتنظيم «سيد قطب» لإحداث فوضى شاملة فى البلاد.
بعد ذلك الحوار الاستثنائى الذى أجراه «رولو» مع أكثر الزعامات العربية نفوذا وشعبية وتمثيلا للفكرة القومية العربية أسبغت عليه شرعية من نوع فريد مكنته أن يزور كل دول الشرق الأوسط بلا حساسيات، فتحت أمامه كل الأبواب الموصدة، وربطته صداقات وصلات حوار مع الزعيم الفلسطينى «ياسر عرفات» والملك الأردنى «حسين» والعقيد الليبى «معمر القذافى» والرئيسان السورى «حافظ الأسد» والعراقى «صدام حسين».
كان ذلك استنتاجا فى محله سجله ابنه الروحى «آلان جريش» مدير التحرير السابق لـ«لوموند دبلوماتيك» فى تقديم ثانٍ للمذكرات نفسها.
تجربة حوار «رولو» قبل نحو ستة عقود تستحق المراجعة واستخلاص الدروس إذا ما أردنا اليوم فى الحوار الوطنى المرتقب أن نخاطب العالم باللغة التى يفهمها، أن يكون لدينا ما نقوله والحديث داخل مباشرة إلى موضوعه: «الإفراج عن كل معتقلى الرأى الذين لم يحرضوا على عنف، أو تلوثت أياديهم بالدماء».