بيجاما كاستور - داليا شمس - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 11:32 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بيجاما كاستور

نشر فى : السبت 19 نوفمبر 2022 - 8:50 م | آخر تحديث : السبت 19 نوفمبر 2022 - 8:50 م
وقعت يدها على بيجاما والدها الكلاسيكية الكاستور، وهى تبحث عن ملابس الشتاء أعلى الخزانة الخشبية التى تحتل معظم الغرفة. أخذت تتلمس نسيجها الناعم وخطوطها العريضة وتتذكر ملامح وجهه الطويل، بارز العينين والأنف، ومنظره وهو يعزف على آلة الهارب بغرفة الصالون، مرتديا بيجامته «المقلمة». ورث تلك الآلة الموسيقية عن جدته ولم يكن يجيد العزف عليها فى البداية، لكن مستواه تحسن مع الزمن، ولم يفكر قط فى استبدالها بآلة أخرى كالقانون أو العود أو الكونترباص.
يخرج من شغله ضمن جماعات الموظفين التى تنطلق من أبواب الوزارات كالفيضان العارم، وفى المساء حين يفرغ إلى نفسه، يجلس أحيانا وراء الآلة الضخمة التى تليق بالمعابد والقصور، وهو يلبس بيجامته المخططة، الزى المعتمد لأغلبية آباء الطبقة الوسطى فى جيله.
•••
ليس دارجا أن يعزف الأهل على الهارب فى المنزل، خاصة الآباء، فبالإضافة إلى ارتفاع ثمنها، تعتبر آلة أنثوية أكثر منها ذكورية، ارتبطت دائما فى المخيلة بصورة الفتاة الجميلة التى تنقر أوتارها بأناملها الرقيقة، وتتوارى قليلا خلفها. وبالطبع لم يتوقع أحد ممن عرفه أن المدير العام كان يعزف الهارب بالبيجاما مساءً، بل لم يتخيلوا أنه يعزف الموسيقى على الإطلاق، وحتى لو تكهن البعض لم يخطر ببالهم أنه مغرم بآلة الهارب، كل نصيبه من تَرِكَته العائلية.
تلمس الابنة البيجاما مرة أخرى وترن فى أذنيها جملة أمها الشهيرة وهى تداعب زوجها فى نهارات دافئة، قائلة: «الحلو حلو ولو صحى من النوم». ثم تتذكر هيئته فى أواخر أيامه حين عاش فى شبه عزلة، لا يخرج من بيته إلا نادرا، وحركة جسده الثقيل على الكرسى الأحمر العملاق. يقدم خطوة ويؤخر خطوة، خوفا من أن تعلق أقدامه بالسجاد.
انتمى لجيل كان يتنزه فى شوارع وسط البلد، متنقلا بين السينمات والمسارح ومحال السندوتشات والمثلجات والملابس الجاهزة والورود. واعتاد أن يشترى حاجياته من هناك، فظل يتردد على بائع البيجامات والأرواب نفسه، ولا يرضى ببديل عن تفصيلة ملابس النوم التقليدية من الصوف والكاستور شتاءً، ومن اللينوه القطنى الناعم صيفا. تدريجيا بدأت هذه الأقمشة فى الاختفاء، وكانت من العلامات المسجلة لمصانع الغزل والنسيج المصرى على مدار سنوات وسنوات. لكن لا شيء يبقى على حاله.
•••
فى آخر مرة أرسلها أبوها إلى الترزى العجوز بوسط المدينة لشراء بيجامات كاستور، رد هذا الأخير معتذرا: «لا توجد سوى قطعة واحدة، لا أجد كاستور المحلة، فماكينات المصانع القديمة تتوقف واحدة تلو الأخرى، وأنا فى انتظار القماش. تابعى معى على التليفون»، وتلا ذلك بالطبع تنهيدة طويلة تمر معها ذكريات زمن كان يلبس قمصانه وبيجاماته الرؤساء والوجهاء، فالسائد قوله عن قماش الكاستور إنه وحد طبقات الشعب المصرى فى رداء واحد، وإن الدولة كانت توزع أتواب الكاستور مع الزيت والسكر ببطاقة التموين، ضمن السلع الأساسية.
ثم تتردد الروايات حول إصرار الرئيس السادات على بعث الأسرى الإسرائيليين إلى حكومتهم وهم يرتدون «بيجامات كاستور» مصرية الصنع لتتناقل صورهم وكالات الأنباء، وحكايات أخرى عن تثبيت تاريخ دخول المدارس بعد جنى القطن ليتمكن الخياطون من تجهيز بيجامات الشتاء والزى المدرسى، فمرايل المدارس الحكومية البيج كانت تصنع من قماش «دمور» اسمه «تيل نادية»، تنتجه شركة المحلة الكبرى للغزل والنسيج.
لسنوات عملت 33 شركة من القطاع العام وأكثر من 3 آلاف شركة قطاع خاص فى تصنيع ملابس الكاستور الشتوية، بحسب الصحف، موضحة أن حوالى خمسين فى المائة من عمال البلد اشتغلوا فى صناعات الغزل والنسيج التى ازدهرت منذ أيام محمد على، فمصنع مصر العامرية للغزل والنسيج كان ينتج 9 آلاف قطعة من ملابس الكاستور القطنية كل يوم حتى العام 1974.
•••
كأن خطوط البيجاما العريضة ما هى إلا خطوط وملامح عصر رحل مع أبيها وترزيه المفضل، وظلت هى وبعض أبناء جيلها يُعبِرون عن العبء الذى يجثم على الصدور من خلال جمل اعتراضية يكتبونها على وسائل التواصل الاجتماعى ليرفضوا تصفية مصانع الغزل والنسيج والحديد والصلب والسماد والألومنيوم، ويتابعون سقوط قلاع الصناعة القديمة وتكهين الماكينات.
تدريجيا لم نعد ننتج شيئا، حتى وإن وردت أخبار حول الرغبة فى إنشاء مصنع كبير بالمحلة الكبرى، من خلال دمج 23 شركة غزل ونسيج و9 شركات للتجارة والحلج. تقلص حجم الأراضى التى تزرع قطنا منذ الثمانينيات، وسمحت الحكومة المصرية بربط أسعار القطن بالأسواق العالمية فى التسعينيات، ثم رفعت دعمها عن زراعته عام 2015، معللة أن القطن طويل التيلة مكلف جدا ولا يلاقى إقبالا، وأن مصانع الملابس لم تعد تشترى القطن المحلى رغم ضغوط الدولة. وبعدها بعام واحد، وصلت ديون قطاع الغزل والنسيج إلى خمسين مليار جنيه، إيذانا بتوقف نشاط العديد من المصانع التاريخية.
مصانع رأيناها فى سينما الأبيض والأسود، فغنت ليلى مراد «دور يا موتور» فى فيلم «سيدة القطار» ليوسف شاهين عام 1952، ورأينا محمد الكحلاوى يغنى «خليك مع الله» ويعمل على ماكينة فى مصنع النصر للغزل والنسيج، وهو من أقدم الشركات العاملة فى هذا المجال، إذ يرجع تاريخ تأسيسه إلى منتصف العشرينيات، كأحد أنشطة بنك مصر برأس مال قدره 300 ألف جنيه، ازداد تدريجيا فأصبح أربعة ملايين عام 1958، قبل أن تخضع الشركة للتأميم فى مطلع الستينيات.
دنيا عجيبة! كل هذه التفاصيل حملتها بيجامة والدها، أدخلتها سلسلة من المتاهات، وهى الشيء الوحيد المُحكم الذى نجيد صنعه. تلاشت أصوات آلة الهارب والماكينات التى اختلطت فى ذهنها.
التعليقات