رسائل يحيى حقى إلى الكتاب الشباب - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الثلاثاء 23 أبريل 2024 3:51 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

رسائل يحيى حقى إلى الكتاب الشباب

نشر فى : الجمعة 20 مايو 2016 - 9:30 م | آخر تحديث : الجمعة 20 مايو 2016 - 9:30 م
كلما قرأت نصا روائيا أو قصصيا مما تقذفه علينا المطابع كل يوم تحسرت على الحال التى وصلنا إليها من المباشرة والسذاجة وتعجل النتائج على حساب «المنتج» نفسه. ليس أسوأ من تجربة قراءة نص ردىء، معاناة حقيقية وخبرة مرهقة، وأتساءل لماذا نقرأ الأدب؟

هل نقرأ الأدب كى نعاين خبرة جمالية ومتعة شعورية فى المقام الأول وصولا إلى إرهاف الوعى واكتساب رؤية جديدة للعالم أم نقرأ حروفا وكلمات مرصوصة فى مئات الصفحات خالية من الجمال والفكر والشعور مجموعة بين دفتى كتاب بغلاف مبهرج مكتوب عليه «رواية» وانتهى الأمر عند هذا الحد؟!

الحقيقة، ولأننى لا أمل من التذكير والإشارة إلى ما أسميه «دروس الكتابة» أو «أنفاس الكتابة الرائقة» التى أبدعها وقدمها كبار كتابنا عبر إبداعاتهم وكتبهم؛ فإننى دائما ما أستحضر دروس شيخ الكتاب والجد المقدس، يحيى حقى أحد أولياء الكتابة الصالحين ذلك الذى بهرنى، منذ تعرفت على نصوصه، بإبداعه وحسه ونظراته المختلفة للغة والأدب والإبداع بشكل عام.

ولأن حقى كان بالفعل شيخ طريقة؛ ومتذوقا عظيما من كبار المتذوقين للجمال والفن واللغة، فإن دروسه التى ألقاها بغير تكلف ولا ادعاء ولا وعظ إنما هى على الحقيقة «كنز أدبى» و«فنى» لمن يبحث عن زاد يعينه على اجتياز الرحلة، وشق الطريق، وأتساءل: كيف لهذا الكنز أن يظل بمنأى عن عيون مريدى الكتابة ومحبيها؟

كنت ممن أسعدنى الحظ بقراءة الأعمال الكاملة ليحيى حقى فى طبعتها الصادرة عن الهيئة العامة للكتاب، قبل أكثر من عشرين عاما، تقع فى ما يزيد على عشرين جزءا؛ المجلد الأخير منها حمل الرقم (28) بعنوان «كناسة الدكان» وهو الجزء التاسع من المقالات الأدبية؛ (جمعها وأعدها للنشر الناقد الراحل فؤاد دوارة).

من ميزات هذه الطبعة الرائعة، أنها كانت زهيدة الثمن، متوفرة فى كل فروع ومكتبات هيئة الكتاب، حجمها أنيق، حملت عنوانا جامعا «مؤلفات يحيى حقى»، وكان غلافها أيضا يحمل صورة بالأبيض والأسود لحقى يرتدى نظارته الطبية، ويحمل عصاه التى لم تفارقه فى سنوات الكهولة والشيخوخة، وعلى وجهه ابتسامته الحانية الوديعة التى تحمل أطنانا من الرضا والمحبة والسلام النفسى.

ومن أهم ما ميَز هذه الطبعة، أيضا، ومنحها قيمة خاصة، اشتمالها على كتبٍ ومقالات لم تنشر من قبل بين دفتى كتاب، استخلصها بدأب وحب «فؤاد دوارة» من بين ركام صفحات الجرائد والمجلات التى نشر فيها حقى على مدى أكثر من ثلاثة عقود. المقالات الأدبية وحدها جمع دوارة منها 9 أجزاء متصلة، وكانت المرة الأولى التى يقرأ فيها محبو حقى مقالاته مجموعة بين دفتى كتاب اتخذ لها عناوين صارت أشهر من نار على علم؛ «تعال معى إلى الكونسير»، «يا ليل يا عين ــ سهراية مع الفنون الشعبية»، «عطر الأحباب»، «حقيبة فى يد مسافر»، وغيرها.

ورغم صدور طبعات تالية من أعماله، فإن هذه الطبعة من أحبها إلى قلبى وأقربها إلى نفسى، خاصة تلك الأجزاء التى جُمعت فيها مقالات حقى عن الأدب والفن والنقد واللغة؛ تحديدا كتابيه «أنشودة للبساطة ــ مقالات فى نقد القصة»، و«عشق الكلمة ــ الكتابات النقدية».

فى هذين الكتابين تحديدا، على الترتيب: «أنشودة للبساطة» و«عشق الكلمات»، يظهر أحد وجوه يحيى حقى التى فى رأيى لم تنل ما تستحقه من اهتمام ومتابعة حتى الآن، ولا وقع منه شىء تحت أيدى هؤلاء الذين يتعجلون الكتابة دون أن يقدموا لها بما تستأهله من إعداد وتكوين وثقافة رفيعة، والأهم ذائقة فنية سليمة تنتقى ما تقرأ وتستوعبه وتتمثل جوهره.

حقى لم يكن مبدعا من الطبقة الممتازة فقط فى القصة والرواية، بل كان أيضا مبدعا عظيما فى كل ما خطت يمينه فى الأدب والنقد والفن، فى السياسة والتاريخ والترجمة، مُبدعا لا يُبارى فى تذوق النصوص والتعليق عليها واقتناص جمالها، يتوقف بروية عند عباراتها وألفاظها وتصاويرها، ويتأمل بعين فاحصة شبكة العلاقات الجامعة لها ومدى ملاءمتها للمعنى الذى تعبر عنه أو تسعى لتصويره، كان حقى مبدعا فى علاقته الحميمة باللغة التى يكتب بها، يحاورها، يهامسها، ويُسايسها حتى منحته كنوزها وخفاياها ينهل منها ما شاء كيفما شاء.

عند هذين الكتابين، أتوقف قليلا، ولأنهما لا يفارقانى منذ تعرفت عليهما، أعاود النظر فيهما، وأرجع إليهما بين حين وآخر للاستزادة أولا من الروح النقية النافذة التى كتبت بها هذه المقالات، وثانيا للإضاءات المركزة المكثفة التى قدمها يحيى حقى فى ما يخص الكتابة والتعامل مع النصوص الأدبية، قراءة وكتابة ونقدا، وثالثا لأنها فى المجمل تقدم خبرة رائعة وخريطة طريق ممتازة للكتاب الجدد، المقبلين على الكتابة، ولمن يبحثون عن أول الطريق.

امتلك يحيى حقى البصيرة، وأيقن أن التجربة الفنية «الحقيقية» تدرك بالمعاناة والنظر وارتياد آفاق بعيدة فى استكناه روح اللغة، كان يحيى حقى من الصفوة التى انكشفت لها جماليات اللغة العربية، بإدراك وعلم، وإمكاناتها التعبيرية وطاقاتها الإبداعية (لو كان هناك باحث نابه يعكف على ما كتب يحيى حقى فى هذا الموضوع ويستخلص منه خيوطا نظرية أو تصورا ما لنظرية جمالية لغوية).

حساسيته للكلمة، اللفظة المفردة، ودقائق العبارة العربية، كان مذهلا، تجلى ذلك بأوضح ما يكون فى «أنشودة للبساطة» و«عشق الكلمة»، يقول حقى عن اللغة العربية إنها «لغة عبقرية فى قدرتها على الاختصار الشديد مع الإيحاء القوى»، وهو هنا لا يصدر فى هذا الحكم عن نعرة قومية أو عصبية لغوية بل عن حساسية عالية اكتسبها من مداومة النظر والبحث فى إرث هذه اللغة.

أدار حقى مقالات كتابه «أنشودة للبساطة» (أو بالدقة الذى جمعه دوارة ونظمه فصولا بين دفتى كتاب)، حول التراث الأدبى، وعن الأدب العربى، وعن لغة الكتابة، ولمن يكتب الكاتب، وجولات فى محراب الفن، من الصعب أن تنتهى من صفحة واحدة دون أن تستوقفك عبارة لجمال لغتها وبساطة تعبيرها، فقرة موحية بعمق طرحها وفكرتها العبقرية، نص بديع يمثل خلاصة مقطرة مصفاة حصيلة ما يزيد على نصف القرن من الإبداع والكتابة.

فى موضع من «أنشودة للبساطة»، يوجه حقى حديثه لناشئة الكتاب وشباب القراء على السواء عن الأدب العربى القديم، يقول لهم «لا تنسوا أن الأدب العربى هو مادتكم التى تشتغلون بها.. اقرأوه بإمعان.. بنظرة فاحصة جديدة تسندها ثقافة العصر، هو وحده الذى سيعلمكم فن القول. وما فن القصة إلا نوع من فن القول. أنتم تقيمون بناء أحجار هى الكلمات، ستجدون فى الأدب العربى الخالى من القصة سر هذه الكلمات؛ دلالاتها، جرسها، أطيافها. لا تبحثوا فى الأدب العربى عن القصة، لن تجدوها.. ابحثوا فيه عن الكلمة، ستجدونها.. ستشبع نفوسكم بسر اللغة التى تكتبون بها».

هذا واحد من دروسٍ ذهبية، عَمَر بها الكتاب، لو أن درسا واحدا فقط (وليكن الدرس السابق) كان نصب أعين من يبتلوننا بكتبهم، وينغصون علينا العيش بما تخرجه المطابع والدور، لاختلف الحال والله!

أتفق، تماما، مع بلال فضل الذى قال «إن قراءة كتب يحيى حقى بمثابة آليات علاجية ضد الاكتئاب والزهق وكرشة النفس، فلغته لا مثيل لها بين الكتاب جميعا»..