أختنا الكبيرة.. رحلت - كمال رمزي - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 4:36 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أختنا الكبيرة.. رحلت

نشر فى : السبت 20 يونيو 2015 - 11:10 ص | آخر تحديث : السبت 20 يونيو 2015 - 11:10 ص

فى بداية السبعينيات، أثناء دخولى «مركز الثقافة السينمائية»، فوجئت بسيدة أربعينية أنيقة، بسيطة، تغادر المكان وهى فى حالة غضب شديد، لا تكاد ترى ما أمامها. وجهها يتصبب عرقا، صوتها المتقطع ينذر بتصعيد الأمور، فلا يمكن استمرار الحال على ما هو عليه، طالما بقى الشرير، المدمر ـ من وجهة نظرها ـ المونتير، أحمد متولى، فى مجلس الإدارة.

بعد أسابيع قليلة، رأيت ذات السيدة، تجلس مع ذات «الشرير»، فى ذات المركز، وهما فى حالة ود صادق، يسخسخان من الضحك. اختفت الملامح المتقلصة بالضيق والكدر، حل مكانها نوع فريد من الوئام والمحبة، لم أعرف سبب الشجار، ولا دوافع المصالحة. كل ما عرفته أن اسمها نبيهة لطفى، وأنها جاءت إلى مصر، عقب طردها من الجامعة الأمريكية فى بيروت، نظرا لمشاركاتها الفعالة، ضد حلف بغداد، فى العام ١٩٥٥، وبعد إصدار جمال عبدالناصر قرارا يقضى بقبول المفصولين فى الجامعات المصرية. التحقت نبيهة بالمعهد العالى للسينما، وتخرجت فى العام ١٩٦٤، والواضح أن جديتها، وحماسها، وطاقتها، من السمات التى جعلتها مطلوبة، مساعدة للإخراج، مع سعد عرفة، فطين عبدالوهاب، حسام الدين مصطفى، خليل شوقى. لكن مزاجها اتجه نحو السينما التسجيلية.

فى البدايات، عرفت نبيهة من خلال عيون الآخرين، أو من خلال قلوبهم إن شئت الدقة: رأفت الميهى، الساخر منها، ومن نفسه، تترقرق نظراته بالمحبة، وهو يتلقى، بود، ردودها الساخنة.. داود عبدالسيد، الحكيم العاقل، يتحول معها إلى مشاكس بلا حدود، ولاحقا، فى «رسائل البحر»، أسند لها أداء دور «فرانشسكا» الذى يعبر تماما عن شخصيتها الرقيقة، الحانية، الطيبة، وبعفويتها الصادقة، بدت طبيعية، كأنها لا تمثل. إلى جانب داود، المدرك لأغارها، ثمة خيرى بشارة، الذى يتحول إلى طفل لا يتوقف عن إزعاجها، وهو يعلم تماما زنها ستتقبل مشاغباته تقبل الأم أو الشقيقة الكبرى، لنزق صبيها المحبوب.. وبينما تكتسى عيون سلمى الشماع بالهجة، حين ترى نبيهة، يتقبل على أبوشادى، بانشراح، تأنيب نبيهة له، لأنه لا يسأل عنها، بانتظام.

باقة المحبة، التى تجسدها نبيهة لطفى، أحاطت بأريجها، بطلات أفلامها التسجيلية، سواء أطفال «تل الزعتر» ١٩٧٧، أو أبناء الفلاحين فى «لعب عيال» ١٩٩٠، حيث تتأمل، بكاميرا مرهفة، ملامح الجمال والبراءة، فى وجوه مستبشرة بالأمل، برغم ما يحيط بها من قسوة. تقف إلى جانب «المرأة العربية» ١٩٩٦، وتترك فرصة الكلام، والتعبير عن الذات، للمرأة العاملة فى الريف «سامية»، والقاهرية «عطيات»، وتتجلى روحانية نبيهة لطفى فى «صلاة من وحى مصر العتيقة» ١٩٧١، و«دير القديسة كاترين» ١٩٨٠.

مع الأيام، وتوالى التجارب، ازداد حبى واحترامى لنبيهة لطفى. فى مساء ٤ أكتوبر ١٩٨٦، أبلغنى صديقى الناقد الكبير، سمير فريد، أن شادى عبدالسلام، طريح الفراش، يريد أن يرانى. فى صباح اليوم التالى، التقيت نبيهة لطفى، مع صديقتنا المشتركة، مصممة الأزياء، ناهد نصر الله، عند ميدان العباسية.

انطلقت بنا عربة ناهد فى اتجاه مدينة نصر، إلى مستشفى المقاولون العرب. نبيهة، تحمل سلة، لا أعرف ما بداخلها. بدا لى شادى، وقد تساقط شعر رأسه، وتمكن منه الوهن، كما لو أنه حكيم فرعونى، يتكلم قليلا، كلمات تتضمن معانى عميقة، وشبح ابتسامة تختفى عندما تعاوده نوبات الألم. حينها، تمسك نبيهة بإحدى كفيه، وبأصابع يدها الأخرى تتلمس وجهه، كأنها تريد أن تشاطره الألم. وقبل أن نغادر، أخذت تجمع ملابسه الداخلية، بعد أن أخرجت من السلة، ملابسه النظيفة. أدركت أنها، تتولى غسل وكى ملابسه. حينها، وحتى الآن، تمنيت أن أقبل يديها.

كمال رمزي كاتب صحفي
التعليقات