عندما ظهرت تكنولوجيا الذكاء الاصطناعى للعامة منذ حوالى عقد من الزمان، بدأ الناس يتساءلون عن ماهية هذه التكنولوجيا خاصة أن الاسم يوحى بالكثير، بعد عدة سنوات ظهر الذكاء الاصطناعى التوليدى (generative AI) مثل (chatGPT) وهنا تحول التساؤل إلى دهشة ثم انبهار بهذه البرمجيات التى تتحدث كما يتحدث البشر وتجيب على الأسئلة بدقة وتوحى بأن لها أحاسيس ووعيا. هذا الانبهار بدأت تغزوه مسحة من الخوف من خسارة الكثيرين لوظائفهم التى ستلتهمها تلك البرمجيات وكثر الحديث عن التنافس بين الذكاء الاصطناعى والبشر. مقالنا اليوم يتحدث عن هذه النقطة بالتحديد: ما هى طبيعة العلاقة بين الذكاء الاصطناعى والبشر؟ بل دعنا نوسع السؤال قليلا: ما هى طبيعة العلاقة بين الكمبيوتر والبشر فى القرن الواحد العشرين؟
حتى نجيب عن هذا السؤال دعنا نعود إلى أكثر من ألف سنة للوراء وبالتحديد فى العصر العباسى حيث تولى عبقرى الرياضيات والجغرافيا والفلك محمد بن موسى الخوارزمى بيت الحكمة فى بغداد أثناء خلافة المأمون. الخوارزمى له الكثير من الإسهامات لكننا سنركز على إسهامين: الأرقام الهندية العربية وتقديمها للغرب وهذا إسهام مهم جدا لأنه أدخل الرقم صفر، بالإضافة إلى شرح عمليات حسابية معقدة بتلك الأرقام، وهذا يقودنا إلى الإسهام الثانى وهى طريقته فى شرح خطوات الحل بطريقة منطقية مما جعل البعض يعتبره جد علوم الحاسب، لأن شرح خطوات الحل لأية مشكلة بطريقة منطقية لا تحتمل التأويل هو تعريف كلمة الخوارزم (algorithm) وهى الخطوة الأساسية والأهم والتى تحتاج مهارة كبيرة قبل خطوة البرمجة. ماذا حدث بعد ذلك فيما يتعلق باستخدام أجهزة الكمبيوتر؟
• • •
كان لابد أن ننتظر قرابة تسعمائة سنة حتى القرن التاسع عشر حين ظهر جهاز ميكانيكى يقوم ببعض العمليات الحسابية من تصميم تشارل باباج. هنا ظهرت الكونتيسة الإنجليزية ابنة اللورد بايرون والتى اشتهرت باسم آدا لوفلاس (Ada Lovelace). عالمة الرياضيات هذه درست جهاز باباج الميكانيكى وابتكرت خطوات (أى خوارزم) لاستخدامه فى بعض العمليات الحسابية، بل وتنبأت أن تلك الأجهزة التى تقوم بعمليات حسابية يمكنها أيضا التعامل مع الحروف والكلمات ويمكنها تركيب جمل موسيقية، لاحظ أننا ما زلنا فى القرن التاسع عشر أى لم توجد بعد أجهزة الكمبيوتر الإلكترونية كما نعرفها (راجع مقالنا عن تاريخ أجهزة الكمبيوتر المنشور الأسبوع الماضى). لهذه الإنجازات يعتبر مؤرخو الكمبيوتر والرياضيات آدا لولاس هى أول مبرمجة فى التاريخ وهناك لغة برمجة مسماة باسمها تكريمًا لها وهناك مؤخرا رقائق كمبيوتر (computer chips) من شركة انفيديا مسماة على اسمها أيضا.
العلاقة بين البشر وأجهزة الكمبيوتر بدأت تظهر عندما ظهرت أجهزة الكمبيوتر الإلكترونية فى منتصف القرن العشرين.
• • •
عندما ظهرت أجهزة الكمبيوتر الإلكترونية لم تكن فكرة البرمجيات قد ظهرت. كانت هذه الأجهزة عبارة عن دوائر إلكترونية متصلة ببعضها. إذا أردت من الجهاز أن يقوم بمهمة مختلفة يجب أن تقوم بإعادة توصيل تلك الدوائر، وهذا طبعا كان يأخذ وقتا ويتطلب «مجهودًا بدنيًا» كبيرًا. الخطوة التالية فى تطور تلك العلاقة هى تطوير تصميم الكمبيوتر بحيث يمكن إدخال بعض الأرقام إلى جهاز الكمبيوتر تجعله يقوم بعمليات مختلفة. هذه الطريقة أسهل من سابقتها لكنها تعانى من مشكلتين: تحويل الخوارزم إلى أرقام ليس بالشىء السهل، والأرقام التى يفهمها الكمبيوتر هى الصفر والواحد فقط. للعلم أجهزة الكمبيوتر حتى يومنا هذا لا تفهم إلا الصفر والواحد وما تراه أنت على الشاشة أو لغات البرمجة التى يستخدمها المبرمجون هى مجرد «صورة» لتسهيل التعامل مع الكمبيوتر. حيث إننا ذكرنا لغات البرمجة فقد حان الوقت للنقلة الكبيرة فى العلاقة بين البشر وأجهزة الكمبيوتر.
• • •
ما بين الصفر والواحد ولغات البرمجة هناك بعض المحطات الصغيرة سنتجاوزها لنصل إلى العام 1957 حيث طور عالم الكمبيوتر جون باكوس أثناء عمله فى شركة أى بى إم لغة البرمجة التى نعرفها باسم (FORTRAN) وهى لغة ما زالت حية حتى الآن. ظهورها وبداية استخدامها خاصة من علماء الرياضيات لاستخدام الكمبيوتر للقيام بعمليات معقدة فتح باب تصميم وتطوير لغات البرمجة حتى أصبح لدينا مئات من لغات البرمجة بعضها يعيش لمدة قصيرة ثم يختفى والبعض الآخر عمره أطول قليلا. هنا بدأت العلاقة بين البشر والكمبيوتر تأخذ شكلا أكثر تعقيدا، حيث بدأت أقسام علوم الكمبيوتر فى الظهور وبدأت دراسة تصميم الخوارزميات بطريقة متعمقة ودراسة تصميم لغات البرمجة ثم دراسة البرمجة وعلم نفس البرمجة إلخ. مع وجود تلك الأساليب المتقدمة ظهرت برمجيات أكثر تقدماً مثل ألعاب الكمبيوتر المبهرة وبرمجيات التحكم فى شبكات الكهرباء والمياه والطرق.. حتى الوصول إلى الذكاء الاصطناعى الذى نعرفه الآن، وهنا كانت النقلة التالية الكبيرة فى العلاقة بين البشر والكمبيوتر كما نعيشها الآن.
• • •
منذ أن ظهرت مهنة البرمجة إلى الوجود يواجه المبرمجون مشكلة كبيرة، هناك بعض لغات البرمجة سهلة وكتابة البرمجيات بها ميسر ولهذا من يستخدم تلك اللغات يحقق إنتاجية كبيرة، لكن البرمجيات التى يتم إنتاجها بتلك اللغات ليست سريعة بالقدر الكافى وقد يكون بها عيوب مثل استهلاك طاقة أكثر إلخ. على صعيد آخر هناك لغات برمجة أصعب من الأولى وبالتالى تحتاج مجهودا أكبر من المبرمج لإنتاج البرمجيات بها لكن تلك البرمجيات تمتاز بالسرعة والكفاءة. إذا إما إنتاجية المبرمج أو كفاء المنتج النهائى. نُشرت أوراق بحثية كثيرة فى هذا الشأن، بل كان من نتاج هذه المشكلة ظهور فرع يسمى علم نفس البرمجة. الحلول الموجودة حتى الآن ليست كافية، حتى ظهر الذكاء الاصطناعى التوليدى.
يستطيع المبرمج إعطاء أوامر للذكاء الاصطناعى بكتابة برمجيات أو بعض مقاطع من البرمجيات، وعندما يرى المبرمج ما أنتجه الذكاء الاصطناعى قد يطلب بعض التعديلات. ما زال هذا الموضوع فى بداياته لكن كفاءة الذكاء الاصطناعى فى إنتاج البرمجيات تتحسن، وبالتالى العلاقة بين الكمبيوتر والمبرمج أو حتى الشخص العادى ستتغير. يحتاج المتخصص إعطاء أوامر دقيقة للذكاء الاصطناعى حتى يحصل منه على برمجيات تعمل كما يريد المتخصص. إذا صنعة البرمجة قد تختفى لكن فن البرمجة لن يختفى، على الأقل فى المستقبل القريب. الصنعة هى كتابة البرمجيات باستخدام لغة برمجة معينة، أما الفن فهو فى إنتاج الخوارزميات التى ستتحول إلى برمجيات. حل المشكلات بطريقة مبتكرة هو الفن. تحويل طريقة الحل إلى برنامج بلغة برمجة معينة هى الصنعة.
• • •
نحن على أبواب عصر جديد من التعاون بين البشر والكمبيوتر، علينا أن نستعد له كالآتى:
• تعليم طلابنا كيفية استخدام الذكاء الاصطناعى التوليدى الاستخدام الأمثل.
• تعليم الناس كافة نقاط القوة والضعف للذكاء الاصطناعى خاصة التوليدى مثل تشات جى بى تى حتى لا ينبهر الناس به انبهارًا مَرَضيًا ولا يخافون منه خوفا يجعلهم يعزفون عن استخدامه.
• الكف عن إدخال كلمة «الذكاء الاصطناعى» فى كل شىء من باب «المنظرة»، فليس كل شىء وكل مشكلة تستفيد منه.
العلاقة الصحيحة بين الكمبيوتر والبشر هى علاقة تعاون وليست علاقة تنافس.