مطبخ الكارنتينا - داليا شمس - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 10:10 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مطبخ الكارنتينا

نشر فى : السبت 21 مارس 2020 - 10:30 م | آخر تحديث : السبت 21 مارس 2020 - 10:30 م

المطبخ يشبه النداهة التي تغوي المحبوسين في البيت بأمر الكورونا. يندفعون نحوه هربا من وطأة الضغط العصبي. يستولى عليهم شيئا فشيئا. يستحوذ على جم تركيزهم لساعات ويسمح لهم بالاستغراق في أمر آخر سوى إحصاء الأموات والمصابين. الكثير من الصديقات والأصدقاء الذين يضيقوا بالبقاء قيد جدران أربعة يطبخون حتى ينسوا الفيروس وسنينه.
استعدت صاحبتنا لأيام العزل. ذهبت لشراء أواني طهي جديدة قائلة ربما لن أتمكن من النزول إلى الشارع فيما بعد. وقفت مشدوهة أمام الأرفف التي تراصت عليها أشكال وألوان من الأواني الأنيقة، بعضها باهظ الثمن، هذا جرانيت، وذاك سيراميك... في هذا الوعاء العميق يمكنها أن تعجن ما تشاء بمحبة وغضب. هى تحب الحياة وتريد أن تحتفي بها، وفي الوقت ذاته عندما تضرب يدها بالعجين تضع فيه كل ما تحوي نفسها من غضب، تعمل يدها فيه بإيقاع دؤوب وصارم وتتلطخ أصابعها ببقايا الدقيق المخلوط بالماء والملح التي علقت بها، فتنسى قليلا صوت رجال الشرطة وهم ينادون على المواطنين لكي ينفضوا من على المقاهي القاهرية حرصا على سلامتهم أو منظر التوابيت الإيطالية التي تقلها عربات الجيش أو ذاك العراقي الشيعي الذي كان يضرب على صدره مرددا أدعية بلكنة أهل الجنوب لحماية المريدين المتجمهرين حوله من الوباء. تنتظر بعدها في هدوء حتى يعلو العجين ويختمر. سعادة وقتية تتمنى أن تدوم.
***
ألوان التوابل تبدد الأفكار السوداء وتقشع الغيوم، تجعلها تطوف ببلدان أكثر بهجة لا تغيب عنها الشمس. تسافر أميالا وأميالا، بعيدا عن قرارات الحظر ومنع السفر. تطير متحدية بخيالها كل ظروف تقييد الحركة. مع هذه الطبخة تستمع للموسيقى الكلاسيكية، ومع تلك إلى مهرجان حسن شاكوش الذي صار بمثابة الأغنية الرسمية لزمن الكورونا، فكل الناس ترقص على "بنت الجيران" من المحيط إلى الخليج، يخرجون إلى الشرفات ويغنوا كما في سائر البلدان. صارت الأغنية الممنوعة رسميا تؤرخ لمرحلة يموت الناس فيها بالآلاف وتحولت إلى رمز تمسكهم بالحياة من خلال الرقص والفرفشة على أنغامها. تنتقل من صوت الموسيقى إلى صور الطاهي الإيطالي الشهير، ماسيمو بوتورا، الذي سمعت عن دروس الطهي المجانية التي يقدمها على الإنستجرام لكي يساعد من وضعوا قيد الإقامة الجبرية في قضاء وقت ممتع من خلال وصفاته. يقدم إيطاليا التي نعرفها ونحبها، بعيدا عن شبح الموت.
هى لا تريد أن تطبخ أطباقا ارتبط تاريخها بالحرب والكرب، فمن المعروف أن هناك أكلات ظهرت في الأزمات تعتمد على البطاطس مثلا أو على خلط القليل من اللحم، وأحيانا الأحشاء، بالخضروات في وعاء واحد فيما يشبه الطواجن، ويكون الاعتماد على "الصوص" الذي يغمس بالخبز فيعطي شعورا بالشبع. تريد بالأحرى في الوقت الحالي أن تجرب أصنافا جديدة، لا تخلو من التفنن، أن تطعم من حولها وتستمع بشكلهم وهم يأكلون بشهية، وهو جزء أساسي من إشباع رغبة حبها وحبهم للبقاء. جميعهم يكرهون شعور الوحدة والعزلة، فهم أشخاص طبيعيون يميلون إلى المشاركة والتواصل مع الآخرين، وهو ما يتحقق من خلال الطبخ في زمن الكورونا والكارنتينا، فقد صار لدينا المزيد من الوقت لكي نمضيه في المطبخ، بدلا من أن كنا نجري من مكان إلى آخر ونحاول إعداد الوجبات السريعة، حاليا لا مجال للجري فنحن نسابق الوقت دون أن نبرح بيوتنا.
***
تحاول أن تتذكر كيف كانت إحدى المقربات للعائلة تحضر "برام الأرز المعمر" على الطريقة الفلاحي، معاييرها كانت دقيقة دون مقادير محددة، تمتزج المرقة باللبن والقشطة الطازجة وتغوص معها أنت في الحنين إلى الماضي القريب. الروائح تجذبك إلى عالم آخر وأوقات مرحة مرت بك ومررت بها، وعندما ترى المنتج النهائي وثمرة وقوفك أمام الفرن طويلا تشعر بالرضا، تقاوم الاكتئاب بمجرد الانغماس في شيء تحبه، مثله مثل جلسات التأمل التي تعلمك التركيز على اللحظة الآنية والاستمتاع بها دون غيرها، دون التفكير فيما يزعجك أو يشغل بالك، أنت الآن فقط تريد أن تتابع حركة البصل داخل الإناء وتشم رائحته، وتراقب المياه وهى تغلي على النار حتى لا تفور، وتنجح في طبختك وترسم الفرح على الوجوه، هذا هو كل ما تتمناه للحظات أو ساعات، وبعدها لكل حادث حديث.

التعليقات