كان السؤال فى استفتاء مارس الماضى إجرائيا، جوهره ترتيب خطوات الانتقال لسلطة ديمقراطية، غير أنه سرعان ما تحول لصراع حول الهوية، وتشكلت على أساسه معسكرات لا تزال قائمة تعطل ببقائها المسار، ولايزال بعض أفرادها مصرا على أن المشكلات التى تواجه مصر الآن لم تكن إلا نتيجة الموافقة على الاستفتاء.
أول الانتقادات الموجهة من هؤلاء تقول بأن الاستفتاء وضع العربة قبل الحصان، بأن جعل الانتخابات سابقة للدستور، وأن هذا الترتيب مخالف لما عليه العمل عند وضع الدساتير، وأننا لو سرنا على درب تونس ــ التى بدأت بانتخاب مجلس تأسيسى ــ لكان الوضع مختلفا، وهى حجج منقوضة من جهات، أولها أن جل المشكلات التى واجهت مصر العام الماضى لم تكن ذات صلة مباشرة بترتيب الخطوات وإنما كانت تتعلق بالتطهير والمحاسبة وإعادة هيكلة مؤسسات الدولة وتوسيع رقعة سيادة الشعب وتعميقها وهى مسارات غير متقاطعة مع الاستفتاء، وثانيها أن أغلبية الدساتير الموضوعة منذ سبعينيات القرن المنصرم وضعتها برلمانات إما بشكل مباشر (42% من الحالات) أو عن طريق جمعية تأسيسية (9%)، وهو ما يعنى أن المسار ليس مشكلة فى ذاته.
وثالثها: هو أن جعل (الدستور أولا) لم يعصم تونس من المشكلات، فالمبادرة بانتخاب المجلس التأسيسى قبل إيجاد مؤسسات تسيير الدولة حمله مسئوليات إضافية، فصار مسئولا عن انتخاب رئيس مؤقت وتعيين حكومة مؤقتة وتولى مسئوليتى التشريع والرقابة، وتراكم المسئوليات أعجزه عن الاضطلاع بدوره، فبدأت المطالبة بتمديد مدته، ثم إن ذلك يكون أشد خطرا على ضمان حقوق الأقليات فى الدستور، لأن الانتخاب المباشر للجمعية التأسيسية يضعف فرصهم فى المشاركة فيها.
ثانى الانتقادات تقول بأن الموافقة على التعديلات عطلت مسار الثورة لأنها رَقَّعَت دستور نظام مبارك الذى يكرس الاستبداد، وهو منقوض من جهات، أولها أن التعديلات أوجبت وضع دستور جديد، وثانيها منع حاجة الثورات الفورية لدستور جديد، فثورة يوليو على سبيل المثال عملت بالدستور القائم ولم تغيره إلى ديسمبر، وثالثها أن التعديلات قوضت الاستبداد جزئيا وبما يتناسب مع طبيعتها الانتقالية، فألغت إمكانية تأبيد الرئيس، وضمنت نزاهة أكبر للانتخابات، وأكدت سيادة القانون على المؤسسات الديمقراطية، ووضعت نهاية لحالة الطوارئ.
وثمة انتقاد ثالث يقول إن الموافقة لم تمنع من إطالة المرحلة الانتقالية، واستمرار حالة الطوارئ، وهو منقوض بأن ذلك تم لا بفعل الاستفتاء وإنما بقطع النظر عن نتائجه، ومن أوجه النقد أيضا القول بأن التعديلات إنما رسمت المسار الذى أراده العسكر، وهو مردود بعدم الاستناد لدليل، وبتصريحات رئيس لجنة التعديلات أن تعديل المادة 189، وإضافة فقرتين إليها، تم بمبادرة اللجنة، وهى المادة التى أوضحت بمنطوقها ومفهومها ترتيب الخطوات، وبرفض العسكر الحالى للترتيب وسعيهم لأن تكون انتخابات الرئاسة لاحقة لوضع الدستور، وبأن هذا المسار حاز قبول أغلبية الناخبين فصار تأييد العسكر له أو رفضهم إياه غير مؤثر.
ثم هناك انتقاد آخر يقول إن إجراء الاستفتاء ــ بقطع النطر عن نتيجته ــ كان خطأ، لأن الاستفتاءات تؤدى بالضرورة للانقسام، وهو غير دقيق لأنه لا يميز بين الاختلاف ــ الذى هو بالفعل لازم الاستفتاءات والانتخابات ــ والانقسام الذى يمنع القوى السياسية من العمل معا، ويجعل العسكر أقرب إليها من بعضها لبعض، وتجنبه الانقسام ممكن فى الاستفتاءات والانتخابات جميعا، ويصير أيسر فى الاستفتاءات لأن التنافس فيها يكون بين اتجاهات ومواد دستورية لا أشخاص وأحزاب، ثم التجنب فى هذا الاستفتاء تحديدا كان ممكنا لأن السؤال ــ كما سبق ــ لم يكن أيديولوجيا بل كان إجرائيا.
وتجنب الانقسام لم يحصل لأسباب أخرى، تتعلق بالنخبة السياسية، والتى غابت عن المشهد مع اندلاع الثورة فاتحد الناس، ثم عادت للظهور وتصدرت المشهد تدريجيا فافترق الناس، وما كان الاستفتاء إذا إلا منصة لحدوث هذا الانقسام الذى كان سيحصل على كل حال.
وهذا الانقسام على أساس الهوية هو مشكلة الثورة الحقيقة المستمرة منذ العام الماضى، وهو القاسم المشترك بين مصر وتونس، وسبب تعطيل مسار الثورة فى البلدين، الوضع عندنا معروف، وتربص طرفى الانقسام ببعضهما وتصيدهما الأخطاء غير خاف، والوضع فى تونس مشابه، إذ لاتزال النخبة منقسمة على قضايا الهوية، ولا يزال كل طرف يحاول تعميق الانقسام على هذا الأساس بدل البحث عن المشترك الوطنى وترسيخه، ولعل واقعة إنزال العلم الأسبوع الماضى (والتى قام فيها بعض «السلفيين» بإنزال العلم التونسى فى أحدى الجامعات وتصدت لهم فتاة تصدرت بعد ذلك المشهد الإعلامى، وكرمها الرئيس، واحتلت مساحة كبيرة من الجدل العام فى الأسبوع اللاحق للواقعة)، دليل على ذلك.
وسبيل الخروج من هذا الاستقطاب على أساس الهوية هو نقل الجدل إلى ساحة البرامج السياسية والمطالب التفصيلية والتنفيذية، وهو ما لا يكون إلا بإفراز قيادات سياسية وساسة ونشطاء جدد، لم تشوههم قيود القمع التى شكلت المجال العام عقودا، وليسوا متخاصمين مع هويتهم، ولا مهووسين بها بحيث لا يستطيعون الانطلاق منها ومناقشة القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لأنهم يرون فى هذا الانطلاق مفارقة ومقاطعة.
ليس مستغربا ــ فى هذا الإطار ــ أن تتصدر القوى الإسلامية المشهد فى مصر وتونس، لأنها الحركات القائمة على الهوية، وليس مستغربا أيضا ألا تأتى المعارضة الفعالة لهذه القوى من القوى السياسية التقليدية التى دخلت فى معركة الهوية، وإنما من قوى اجتماعية وسياسية تتجاوز هذه المعركة، كاتحاد الشغل فى تونس، الذى ضغط على الحكومة وأعاد ترتيب بعض أولوياتها فى الفترة الماضية بإضرابات واعتصامات لها مطالب اقتصادية واجتماعية محددة، والتنظيمات الشارعية فى مصر، والتى تطالب هى الأخرى بمطالبات تتجاوز معركة الهوية، كالمطالبة بالقصاص والتطهير وإعادة هيكلة المؤسسات الأمنية، وكذا بعض المطالبات الاقتصادية والاجتماعية.
كان المسار الذى رسمته التعديلات الدستورية إطارا عاما، ولم يكن فى ذاته سببا فى النجاح أو الفشل، الذى يتحمل الساسة مسئوليته بسبب انقساماتهم وعجزهم عن إدراك واجبات اللحظة وضرورات التعاون لتحقيق الأهداف المرجوة، ولم يكن غريبا حينئذ أن يتوجه نقد الثوار للنخبة القديمة بطرفيها، فعندما احتد الصراع بين أهل (الدستور أولا) و(الانتخابات أولا) فى مصر واجهتهم القوى الثورية بشعارات (الثورة أولا) و(الفقراء أولا)، وعندما اشتد الصراع بين الإسلاميين والعلمانيين فى تونس امتلأت الشوارع وأسوار المبانى بشعارات تقول: (لا إسلامى ولا علمانى، ثورتنا ثورة زوالى).