انظر خلفك فى غضب - عبد الله السناوي - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 1:34 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

انظر خلفك فى غضب

نشر فى : الأحد 22 مايو 2016 - 9:45 م | آخر تحديث : الأحد 22 مايو 2016 - 9:45 م
الجيل الجديد فى مصر لا أول الغاضبين ولا آخرهم.
لكل جيل تجربته مع الغضب بحسب سياق التاريخ وتحدياته.

لا يوجد جيل واحد لعب أدوارا جوهرية فى التاريخ الحديث لم يرتبط صعوده بأسباب غضبه.

روح الغضب ليست تعبيرا طارئا على ظاهر الحوادث، إنما جوهر الصعود إلى مسارح التاريخ.

هناك فارق بين الغضب عن رؤية والجموح عن انفعال.

جميع الانتقاضات والثورات المصرية لخصت «قوة الغضب العام» على أوضاع لا يمكن احتمالها ولا يقبل استمرارها.

الحركة الوطنية التى تأسست فى مطلع القرن العشرين بزعامة الشاب العشرينى «مصطفى كامل» انطوت على غضب من الأسباب التى أفضت إلى هزيمة الثورة العرابية واحتلال مصر عام (١٨٨٢).

نفس الجيل قاد ثورة (١٩١٩) لكن بزعامة «سعد زغلول» فى عالم ما بعد الحرب العالمية الأولى، طلبا للاستقلال والدستور.

رغم كل المتناقضات بين «الحزب الوطنى» القديم، الذى أسسه الزعيم الشاب قبل أن يرحل مبكرا وحزب «الوفد» الذى دشنته ثورة (١٩١٩)، يلفت الانتباه أن «مصطفى النحاس» خليفة «سعد زغلول»، ينتسب بتكوينه الصلب وخبرته السياسية إلى تجربة «مصطفى كامل».

إحدى مآسى السياسة المصرية غياب فكرة التراكم التاريخى، فكل ثوراتها حاولت أن تنسخ ما قبلها كأنه لا يوجد أى وشائج.

تناقضت ثورة (١٩١٩) بزعامة «سعد زغلول» مع توجهات «مصطفى كامل» بقدر ما تناقض الأخير مع سياسات «أحمد عرابى».

بصورة مقاربة تباعدت المساحات بين ثورة «يوليو» بزعامة «جمال عبدالناصر» وثورة (١٩١٩) كأنهما على تناقض لا يمكن ردمه.

الأمر نفسه بدا مفجعا أثناء ثورة «يناير» (٢٠١١) باصطناع تناقض مع ثورة (١٩٥٢) رغم أن توجهاتها العامة تكاد تكون طبعة جديدة فى ظروف مختلفة لما طمحت إليه يوليو.

اختلاف العصور والأجيال شىء ونفى أى صلات شىء آخر.

من حق الجيل الجديد أن يقرأ التاريخ على النحو الذى يتسق مع تطلعاته، أن ينظر خلفه فى غضب بحسب عنوان مسرحية بريطانية ذاع صيتها مطلع السبعينيات وألهمت جيلها، أو أن يتمرد على المألوف والموصوف دون وصاية من أحد أيا كان.

أسوأ خيار ممكن فرض الوصاية على المستقبل بقوة القمع أو قهر الروح.

الحق فى الخطأ من طبيعة أى تقدم، فالذين لا يخطئون لا يتعلمون.

بعد أثمان فادحة استقر فى الوعى العام تكامل حلقات الوطنية المصرية وجرى رد اعتبار جميع ثوراتها.

فى النهاية يصحح التاريخ نفسه ويرد اعتبار تضحياته وتجاربه، أيا كانت المثالب والأخطاء.

عندما لا نصحح فإننا نظلم الذين ضحوا بشرف لصالح من صعدوا بلا استحقاق.

أى تصحيح مسألة حوار، وأى إملاء جهل بالحقائق.

لا القهر يؤسس لاستقرار ولا المصادرة تصلح لبناء.

الصدام المفتوح مع الجيل الجديد رهان خاسر سلفا، ولا يملك أحد إصدار أوامر اعتقال لما فى الصدور من غضب يشتعل وأحلام تكسر.

غضب أى جيل جديد ليس جريمة، فهو جوهر أى حركة للمستقبل.

إذا لم يكن هناك غضب على أسباب التخلف والفساد والاستبداد لا أمل لأى مجتمع.

نقيض الغضب المشروع الاستكانة لخيبات الأمل.

عند كل انعطاف تاريخى مرت به مصر لخص غضبها أنبل ما فيها.

بإلغاء «النحاس» اتفاقية (١٩٣٦)، التى وقعها هو نفسه، انفجرت بين عامى (١٩٥٠) و(١٩٥٣) عمليات فدائية فى منطقة قناة السويس ضد معسكرات الاحتلال البريطانى.

كانت تلك واحدة من الوقفات الكبرى لجيل (١٩٤٦) بأفكاره وتنظيماته وأحلامه وغضباته واستعداداته للتضحية.

وتلخص رواية الأديب الكبير «يوسف إدريس» «لا وقت للحب» تراجيديا الحياة على حد الموت، فى سبيل معنى أكبر من الحياة نفسها بتلك الأيام الحاسمة من التاريخ الحديث.

المعانى الكبرى تضفى على الغضب نبله وعلى العذاب قداسته غير أن التراجيديات تطرح الأسئلة الحرجة: لمن كان المستقبل فى دوائر القوة والنفوذ، لـ«حمزة» الذى حارب فى القناة بإيمان وشرف أم لـ«شكرى» الذى أبلغ البوليس السياسى عن رفاقه؟

ليس مهما فالقصة متكررة بكل العصور والازمان.

فى كل عصر «ألف شكرى» كأن الزمن لا يتوقف عن إنتاجهم، غير أن أمثال «حمزة» هم الذين يضفون على الأوطان حرمتها ويشقون بتضحياتهم طرق المستقبل.

بكلام آخر، أسوأ ما قد يحدث لأى بلد إغلاق طرق المستقبل وكسر جيله الصاعد.

تجربة السبعينيات ملهمة تماما فى مثل ذلك النوع من الصدام مع المستقبل.

فى تظاهراتها الطلابية بدا تحرير الأرض التى احتلت عام (١٩٦٧) نقطة المركز لتفاعلات جيل جديد يعلن عن غضبه على الأسباب التى أفضت إلى الهزيمة.

ارتفعت دعوات تعبئة الجبهة الداخلية والتدريب على السلاح مع نداءات توسيع المشاركة فى القرار السياسى.

لم تكن مصادفة أن يلهم شعار «كل الحرية للوطن وكل الديمقراطية للشعب» الغاضبين الجدد.

كانت تظاهرات (١٩٦٨) التى أعقبت الهزيمة مباشرة مقدمة لما سوف يتبلور بعدها فيما يعرف بـ«جيل السبعينيات».

تلخص صرخة «نحن جيل بلا أساتذة» بتعبير أديب سكندرى، الحالة الوجدانية لذلك الجيل، كأنها قطيعة مع الماضى بكل إرثه الفكرى والسياسى أو إنكار لأى إسهام سبق فى تشكيل الوعى العام.

صرخة الغضب جافت الحقيقة بصورة كاملة، فلا أحد يولد من فراغ دون أن يكون هناك من مهد الطريق أمامه، لكنها عبرت عن ضجر جيل جديد بـ«حكمة من سبقوه» و«الوصاية عليه».

فى لحظات التحول الحادة تتصارع التوجهات والأفكار والمصالح بضراوة وتكاد تغيب عن المسارح السياسية الملتهبة أى مساحات رمادية.

لم تكن سياسات «أنور السادات» قد أخذت مداها لكن الحملات الإعلامية أشارت إلى انقلابات استراتيجية واجتماعية أكثر خطورة تلوح فى الأفق القريب.

فى لحظات الصعود، كما لحظات الانكسار، تتأكد قوة الأفكار فى حسم كلمة التاريخ الأخيرة.

قوة الضمير العام فوق سطوة السلطة، والوزن النسبى لما ترتب على الاحتجاج السياسى زلزل مكانة الرئيس الراحل.

لا يمكن لأحد أن يكتسب قيمته فى التاريخ، وهو فى صدام مفتوح مع حركة غضب منحت مصر أغلب نخبتها السياسية والثقافية لأكثر من أربعة عقود متصلة.

حيث حرية التفكير تبنى الكادرات عن اقتناع حقيقى وتترسخ القيم الوطنية العامة وتكسب معارك المستقبل.

إذا لم نقر شرعية الغضب ونصالح المستقبل فنحن لا نعرف شيئا عن الأجيال الجديدة لا الآن ولا فى أى تجربة سابقة.